الجمعة 2019/04/12

لماذا لم ينقلب الجيش في سوريا على الأسد؟

عقب أحداث الجزائر والسودان وقبلهما مصر وتونس التي أطاحت برؤساء هذه الدول عن عروشهم، سيذهب كثير من السوريين إلى السؤال الكبير: لماذا لم ينقلب الجيش في سوريا على بشار الأسد ويطيح به من السلطة، ويقف إلى جانب الاحتجاجات الشعبية السلمية التي دامت كذلك لقترة طويلة قبل أن تبدأ الصدامات المسلحة في الشوارع مع قوات الأجهزة الأمنية؟، فالجيش حسب طبيعة انتشاره وتسليحه لا يكون عادة في المدن وبين الأحياء السكنية، إنما على حدود البلاد غالباً وفي بعض التجمعات التي تفصلها مسافات بعيدة، وبعيدة جداً عن السكان المدنيين، وعن المنشآت المدنية عموماً، لكن وفي الحالة السورية القائمة على إرهاب الأجهزة الأمنية كانت مقرات هذه الأجهزة هي المنتشرة بين الأحياء السكنية لتثير الرعب والخوف في نفوسهم، وتتدخل في تفاصيل شؤون حياتهم اليومية على رأس كل شارع وفي مفرق كل طريق.

يكبر السؤال أيضاً قليلاً! لم يتعرّض الجيش لأي هجوم من المحتجين كي يبرر أفعاله بأنها كانت في معرِض الدفاع عن النفس، بل ولم يتعرّض لأي هجوم لفظي، حتى أن الجمعة الحادية عشرة للثورة السورية بتاريخ 27/5/2011 حملت اسم "حماة الديار" في محاولة من المتظاهرين لاستمالة الجيش إلى جانبهم، أو وقوفه على الحياد على أقل تقدير بعد القتل والعنف المفرط، وعمليات الاعتقال والتعذيب الوحشية التي كانت تمارسها الأجهزة الأمنية.

لكن هل هذا هو السؤال الصحيح، أو السؤال الوحيد بعد ثماني سنوات من الحرب الرهيبة التي شنّها النظام وأجهزته الأمنية والعسكرية على الشعب السوري؟

على غرار ما حدث في البلدان العربية القاعدة تقول: تجريم طرف والتخلّص منه، تبرئة لغيره، فالإطاحة بالرئيس لم تأت بالحرية، ولم تصنع الديمقراطية ولا التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وجوه في رأس هرم السلطة تغيّرت، وأعادت المنظومات الحاكمة استنساخ نفسها، وأحيانا بصورة أسوأ بكثير عن ذي قبل، ومصر مثال عن ذلك، بمعنى أن الجميع نال صكّ البراءة بعد إزاحة الرئيس، ثم عادوا إلى سيرتهم الأولى، وهم يفعلون ذلك الآن في الجزائر والسودان.

سنشرح وضع عائلة الأسد في سوريا قليلاً مع ضرب المثل بقصّة "سنمّار"، مهندس البناء الذي استعان به ملك الحيرة "النعمان بن المنذر"، لبناء قصر يباهي به ملوك العرب والفرس في زمانه، فكان له ما أراد وبنى له قصر "الخورنق" الذي نال ثناء كل من رآه، وأرضى غرور الملك النعمان، تتابع القصّة أنّ "سنمّار" دلّ الملك على أعجوبة هندسيّة في البناء تتمثّل بوجود حجرة فيه إذا أُزيحت أو قُلعت من مكانها تداعى القصر كله، وتهدّم من فوره، وأنّ للملك إذا أحسّ بخطر، أو داهمه الأعداء في قصره واستولوا عليه، أن يقتلع هذا الحجر ليطبق القصر فوق رؤوسهم، يكتمل المشهد بإلقاء الملك لسنمّار من على ظهر القصر ليرديه قتيلاً كيلا يطّلع أحد على هذا السرّ وذهبت قصتهما مثلاً عند العرب بـ "جزاء سنمّار".

رمزية القصة بعيداً عن طبع ساكني قصور الحكم الملكية الذين لا يتقبّلون أن يسكنها أحد بعدهم من خارج سلالتهم وورثتهم، أنّ تلك العدوى وصلت قصور الحكم في الجمهوريات العربية، بل وتعدّت ذلك بطريقة تفوق حدود تصوّر العقل حين تلغي تاريخاً عريقاً لبلد مثل سوريا، وتجعله يبدأ من تاريخ حكم آل الأسد، وتزرع في قلوب الموالين لها أن نهاية حكم هذه العائلة سيعني نهاية تاريخ هذا البلد، وضع حافظ الأسد شعار "إلى الأبد" ثم وضع وريثه شعار "الأسد أو نحرق البلد".

بنى الأسد الأب منظومة الحكم على مبدأ "وحدة المصير" في مستويين مهمين، الأول مبني على شراكة الفساد في أجهزة الدولة كلها، من قادة الجيش والفروع الأمنية، إلى الوزراء وأعضاء البرلمان، إلى كبار التجار ورجال الدين، إلى رؤساء الاتحادات والنقابات والأحزاب، ومدراء المؤسسات الحكومية المالية والخدمية والتعليمية، وأطلق يدهم في جميع أنواع النهب والسرقة مقابل الولاء والخضوع له ولعائلته من بعده. في هذا المستوى كان الكل يتجسس على الكل ويرسل التقارير للقصر الجمهوري لذا لم يكن هناك بوادر تمرد. كانوا يتخيّلون أنّ أنفاسهم معدودة عليهم، "مملكة الرعب" أنسب تسمية لنظام الحكم السائد في البلاد.

المستوى الثاني كان يمتد في صفوف أبناء الطائفة التي ينتمي إليها الأسد، والتي مارس عليها سياسات ممنهجة ومدروسة جعلت من انخراطهم في سلكي الأجهزة العسكرية والأمنية أحد السبل الرئيسية لكسب عيشهم، هذه الأجهزة التي بنيت أيضاً بطريقة مدروسة تضمن هيمنة الصبغة الطائفية عليها، وبالتالي ولاءها المطلق للعائلة الأسدية، وربط مصيرها الوجودي بمصير الأسد، والتحقت في هذا المستوى طوائف أخرى ضمن شعار زائف آخر رفعه النظام الأسدي أنه "حامي الأقليات".

من جانب آخر في ظل منظومة الحكم هذه كان من المستحيل تقريباً وجود حياة سياسية في البلاد تتيح مساحة ولو ضئيلة لنشوء معارضة منظمة، أو شخصيات وطنية، بالحد الذي يغلق الباب في وجه العقدة الدولية التي وُضعت في وجه المعارضة فيمن هو البديل للأسد حال الإطاحة به.

هذه الصورة تعطي جواباً ولو بسيطاً، ليس لماذا لم ينقلب فقط الجيش على الأسد؟، وإنما أيضاً لماذا لم تفعل ذلك شرائح أخرى أعطت المبرر لحلفاء النظام ليقولوا بوجود دعم شعبي للأسد يوازي حجم الثائرين عليه، وبالتالي عملوا على إغلاق باب المطالبة برحيله طيلة السنوات الماضية؟.

ضمن هذه الصورة هل كان انقلاب الجيش على الأسد بداية الثورة سيكون كافياً للإطاحة به؟ نعم في النهاية يبقى الجيش هو القوة الضاربة الأكبر في البلاد، لكنه لم يكن ليفعل ذلك، بنيته وعقيدته تمنع قراراً من هذا النوع.

لكن بعودة السؤال إثر انقلاب الجيشين الجزائري والسوداني وإطاحتهما بزعيمي البلدين، فإن انقلاب الجيش في سوريا اليوم هل سيكون عاملاً مؤثراً يطيح برأس النظام؟ قد يكون هناك فرصة مع صعوبة ذلك، فالجيش النظامي اليوم لا يملك زمام الأمور، وليس هو المسيطر على الأرض في المناطق الخاضعة للنظام، يمكن أن تكون إيران قد حسبت حساباً لمثل هذا الاحتمال، وأن روسيا قد تدفع بقيادة الجيش للانقلاب ضمن صفقة دولية معها، لذا عملت إيران على إرسال عشرات الآلاف من المليشيات التابعة لها من الحرس الثوري إلى المرتزقة الأفغان والباكستان والعراقيين وحزب الله اللبناني، كذلك هناك مليشيات محلية لا تنتمي للجيش النظامي، وهذه القوى بمجموعها قد تكون صاحبة الكلمة الأقوى اليوم.

يبقى الجيش رغم كل الجرائم التي ارتكبها مطالباً بالانقلاب على الأسد، ثم سيكون هناك باب للمحاسبة، لكن متى ستصل الشرائح المجتمعية المتمسكة بالأسد إلى القناعة بأن زواله لا يعني بحال من الأحوال نفس المصير بالنسبة لهم، فجميعهم كانوا في هذه البلاد قبله بقرون طويلة بعضها يمتد إلى آلاف السنين، وأن السلم الأهلي والعيش المشترك لا يمكن أن يعكّر صفوه سنوات قليلة لحكم عائلة سيبقى تاريخها نقطة سوداء في تاريخ سوريا الحضاري العريق.