الثلاثاء 2019/02/05

لا “منطقة آمنة” ولا “اتفاقية أضنة”.. لا شيء من ذلك سيحدث شمال شرق سوريا

عشرة أيام فقط فصلت بين تغريدة الرئيس الأمريكي ترامب أنه سيقيم منطقة آمنة بعرض 20 ميلا في منطقة شمال شرق سوريا المحاذية لتركيا، وبين تصريح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن الاتفاق الأمني ​​السوري التركي الموقع عام 1998 المعروف باتفاقية أضنة لا زال قائما، وأن تطبيقه يمكن أن يزيل العديد من العراقيل والمخاوف المتعلقة بتحقيق تركيا لأمنها على الحدود الجنوبية.

إذا كان قرار ترامب في سحب قواته العسكرية من سوريا مفاجئا نوعا ما، فإن حديثا يصدر عنه حول إقامة منطقة آمنة سيكون مفاجأة مدوية ومن العيار الثقيل، لا شك أن ترامب لاقى اعتراضا كبيرا من إدارته في قرار الانسحاب، وأن كل ما جرى عقب إعلان القرار يصب في محاولة احتوائه، أو التراجع عنه بالكلية، والولايات المتحدة وغيرها من الدول كانت تمتنع عن مناقشة إقامة منطقة آمنة شمال سوريا، أو منطقة حظر طيران على غرار الحظر الذي نفذته فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة شمال العراق في تسعينات القرن الماضي لحماية الأكراد، والذي تبعه حظر مثله جنوب العراق لحماية الشيعة هناك، الامتناع كان بسبب تعقيدات إقامة هذه المنطقة الآمنة شمال سوريا، وخاصة الرفض الشديد من جانب الروس لها، وارتفاع احتمالات الدخول في مواجهات مباشرة للقوات الجوية، ومن جانب آخر الحاجة لأعداد كبيرة من القوات البرية لحمايتها من قوات النظام، والميلشيات الإيرانية والعراقية وغيرها من الميلشيات الشيعية المرتزقة المنتشرة داخل سوريا، وعلى الحدود العراقية المحاذية للمنطقة، وأخيرا التكاليف المالية الهائلة لمنطقة آمنة مساحتها لا تقل عن 50 ألف كم 2، في حين كانت البداية في منطقة شمال العراق لا تتعدى 2400 كم 2.

الدليل على أن إعلان ترامب عن منطقة آمنة هو فقاعة من فقاعاته الإعلامية لا أكثر، أن النقاش حولها انتقل مباشرة إلى من سيديرها ولم يتطرق إلى المعوقات السياسية والقانونية والمالية، أو الصعوبات التي كان العسكريون يتحدثون عنها فيما سبق، كان ظاهرا أنها ورقة ألقاها ترامب بين يدي الرئيس التركي أردوغان الذي كان يهدد باجتياح المنطقة وطرد حزب العمال الكردستاني وأذرعه العسكرية منها، الحزب الذي تعتبره تركيا إرهابيا، ويشكل خطرا على أمنها القومي، وبالمقابل كانت الولايات المتحدة تعتبره شريكا لها في قتال تنظيم الدولة، وتعمل على منحه حق إدارة لمنطقة إن كان بسلطة الأمر الواقع، أو ضمن ترتيبات الحل السياسي الانتقالي والنهائي للحرب في سوريا.

إذن من جانب التحالف الدولي، الولايات المتحدة التي تقود هذا التحالف هي في طور الانسحاب من سوريا ومن أفغانستان، وليس في طور تعزيز وجودها، وإرسال المزيد من الجنود إلى المنطقة، والدول الأوربية ستسبق الولايات المتحدة في الانسحاب، وليس في أن تخرج بعدها، والدول العربية غير مؤهلة بتاتا لمهمة من هذا النوع، ودول مثل السعودية والإمارات والبحرين مشغولة بمشاكلها الداخلية والإقليمية وخصوصا حرب اليمن والأزمة مع قطر، والسيسي في مصر بدوره همه الأول الآن تغيير الدستور ليتمكن من الاستمرار في حكم البلاد إلى أجل غير مسمى على شاكلة باقي الزعماء العرب.

بعد إعلان ترامب عن المنطقة الآمنة أبدى الرئيس التركي أردوغان قدرة تركيا على عمل هذه المنطقة، ليضمن إبعاد حزب العمال الكردستاني عنها، وكان هذا محور لقائه مع الرئيس الروسي بوتين الذي كان قد أعد مفاجأة غير متوقعة أيضا بطرحه العودة إلى اتفاقية أضنة، وأنها كافية لتحقيق مطالب تركيا، لكن ما مدى جدية بوتين في طرحه هذا؟ وهل رمى هو الآخر هذه الورقة بين يدي أردوغان كما فعل ترامب في ورقة المنطقة الآمنة؟ وهل هي استراتيجية خلط أوراق من طرفين متنافسين أمريكي وروسي؟ أم هروب إلى الأمام ريثما تتغير موازين القوى المتصارعة في سوريا بخروج بعضها أو تراجع دوره، أو انتظار تفاهمات دولية تحدث؟

بوتين ليس في وارد تمكين تركيا من التموضع شمال شرق الفرات، كما هي الحال في مناطق غصن الزيتون ودرع الفرات التي تكرر روسيا مرارا أنه انتشار مؤقت حسب اتفاق أستانا، وأنه استنادا إلى مبدأ سيادة الدول على أراضيها فلابد من استعادة النظام السيطرة على كامل مساحة البلاد، وإنما أراد بوتين قطع الطريق على موضوع المنطقة الآمنة دون إغضاب حليفه التركي، وطرح أمرا يرى من خلاله نظام الأسد أولا مقدار الدعم الروسي له في سباق تنافسي ضد تنامي النفوذ الإيراني على النظام، ويفتح الطريق لعودة الاتصالات بين النظام وتركيا للتفاهم حول تنفيذ اتفاقية أضنة

ثانيا، وهذا هو بيت القصيد من اقتراح بوتين، ولعل الإعلان التركي اليوم عن وجود اتصالات ولو بمستوى منخفض مع النظام هو أول بوادر قبول تركيا بالطرح الروسي حول تفعيل اتفاقية أضنة. لكن كما هو معروف من سلوك النظام فإن الموضوع لن يصل إلى شيء، وسيتمسك النظام بمبدأ السيادة على أراضيه، ويطلب خروج جميع القوات التركية، ونشر جيشه على طول الحدود التركية، وأن يتولى هو إبعاد حزب العمال الكردستاني عن الحدود التركية، الأمر الذي لا تثق تركيا لا بقدرة النظام ولا بإرادته على فعله، فلطالما كان حزب العمال الكردستاني أحد الأوراق التي استخدمها النظام للضغط على تركيا وتهديد أمنها وابتزازها، وخاصة في قضايا مياه الأنهار المشتركة بين البلدين، كما إن الولايات المتحدة سترفض مثل هذه التفاهم لو حصل باعتباره سيضر حليفها الكردي الذي ستبقى هي أيضا تستخدمه للضغط على تركيا لتحسن موقفها التفاوضي في أي مشاكل حالية أو قادمة مثل علاقة تركيا بكل من روسيا وإيران.

إذن فالمتوقع أنه لا منطقة آمنة، ولا تفعيل لاتفاقية أضنة في الأفق، لا شيء من ذلك سيحدث شمال شرق سوريا، وإنما هو خلط أوراق، وهروب إلى الأمام، وأن الأمر لا يزال في مرحلة "إدارة الأزمة" وأنه لم تبدأ مرحلة حلها بعد.