السبت 2020/02/08

كيف انتهى الحال بالأمم المتحدة أن تصبح “جليسة أطفال” ترعى الأزمات؟!

 هكذا استعار الأمين العام للأمم المتحدة هذا التعبير "جليسة أطفال" في تقرير له، في مثل هذا الشهر من عام 2018، ليعبّر به عن الحال الذي انتهت إليه هذه المنظمة الدولية، اللافت للنظر أن الأمين العام ذكر ذلك عقب حديثه عن سوريا ومسؤولية مجلس الأمن التي يجب أن يتحمّلها في سبيل الوصول لتسوية سياسية حسب القرار 2254 (2015).

في الوثيقة الرسمية المنشورة على موقع الأمم المتحدة لترجمة هذا التقرير، يظهر المصطلح الذي استخدمه الأمين العام "a crisis babysitter" في سياق أسباب سَرَدَها أنه "ينتهي الحال بالأمم المتحدة كراعٍ لأزمة، أو تركز على مجرّد احتوائها".

هذا العيب الخطير في عمل الأمم المتحدة ليس جديداً، وليس خاصّاً بالحالة السورية بلا شكّ، عشرات الأزمات حول العالم من فلسطين إلى اليمن إلى ليبيا إلى أفغانستان إلى ميانمار إلى كشمير إلى عدد من الدول الإفريقية، ملفّات مفتوحة لا تُغلق، تمتد من سنوات إلى عقود، بل لاسبيل إلى التوصّل إلى حلول لها وإغلاقها، المشكلة أنّ الأمم المتحدة كمنظمة تعي ذلك تماماً، لذا فهي حين تظهر أزمة في مكان ما تحضّر نفسها لعمل طويل الأمد بالأدوات التقليدية التي درجت على استعمالها طيلة الخمس وسبعين سنة من عمرها، بين وسيط دولي، ولجان تقصي حقائق ومراقبة، وفرض عقوبات، وعقد جولات مفاوضات، وإصدار بيانات مناشدات، أو إدانات، وإدخال شيء من المساعدات الإنسانية، وصولاً حتى إلى إرسال قوات حفظ سلام، وبين ذلك كله تصدر قرارات تجاوز عددها 2500 قراراً، قال الأمين العام قبل يومين عنها أنها "تُنتهك قبل أن يجفّ حبرها"، الأزمات برعاية الأمم المتحدة تترعرع وتكبر كما يترعرع ويكبر الطفل أمام عيني  جليسته، ولعلّ هذا هو الجزء الأسوأ الذي يشتكي منه الأمين العام في استعارته الذي دأب منذ استلام منصبه على الحديث عن "رياح الأمل" التي تهبّ على العالم، ليعود وقبل يومين أيضاً ليتحدّث عن "رياح الجنون" التي تجتاح العالم، أو التي تهبّ في جميع أرجاء العالم، بمعنى أدقّ الأمين العالم يقول: العالم فقد عقله.

بالعودة إلى سوريا، فإضافة إلى تلك العيوب التي تشوب عمل الأمم المتحدة، فقد ظهرت في الآونة الأخيرة مشكلتان إضافيتان، الأولى كانت مع إطلاق وصف "الميسّر" على المبعوث الخاص السيد "بيدرسون" مع بدء أعمال اللجنة الدستورية، والتزام المبعوث بأداء هذا الدور في الجولتين الأوليين، بما يمكن القول أنّ تعطيل عمل اللجنة يشارك فيه كلٌّ من النظام السوري، والمبعوث الخاص الذي رضخ للضغط والابتزاز الروسي، وقبل أن يكتفي بهذا الدور، عوض مهمته الرئيسية التي تتمثّل بالسعي لتطبيق قرارات مجلس الأمن الدولي، وإحاطة المجلس بالعراقيل والعقبات التي تقف في وجهه، والجهات المسؤولة عن ذلك.

هذا يقودنا إلى المشكلة الثانية، فالخلاف المشتدّ في مجلس الأمن بين روسيا من جهة ومعظم أعضاء المجلس من جهة ثانية يتركّز حول إصرار روسيا على عدم منح صلاحية تحديد المسؤولية من طرف الأمم المتحدة مباشرة عبر لجانها في سوريا مثل لجنة التحقيق المعنية باستخدام الأسلحة الكيميائية، والآلية الدولية المحايدة المستقلة للمساعدة في التحقيق والملاحقة القضائية للأشخاص المسؤولين عن الجرائم الأشد خطورة وفق تصنيف القانون الدولي المرتكبة في سوريا، بالطبع ذلك من شأنه أن يوجّه الاتهام والإدانة للنظام السوري ورموزه مباشرة، فيما تريد روسيا تجريد هذه اللجان من صلاحية تحديد المسؤولية، والاكتفاء بعرض خلاصة تحقيقاتها، ليكون الفيتو الروسي حاضراً ضد إدانة النظام السوري كما حدث أربع عشرة مرة خلت.

هذه المشكلة وصلت أيضاً إلى عمل المبعوث الخاص، وها هنا مفارقة ينبغي العلم بها.

جائزة الأمم المتحدة للشجاعة، واحدة من الجوائز التي يمنحها الأمين العام للأمم المتحدة للعاملين في المنظمات التابعة للأمم المتحدة مثل بعثات حفظ السلام وغيرها، من العاملين في سوريا حصلت عليها السيدة خولة مطر "تقديرا لقيامها بمهامها وتعزيزها قيم الأمم المتحدة في بيئة خطرة". كانت يومذاك تشغل منصب مديرة مكتب المبعوث الخاص لسوريا "دي مستورا" في دمشق، واقتضى عملها الدخول الى المناطق المحاصرة والخارجة عن سيطرة النظام السوري، وأبرزها زيارتها لداريا بعد عدة سنوات من الحصار.

السيدة خولة اليوم نائبة المبعوث الخاص إلى سوريا "بيدرسن"، ونابت عنه في تقديم إحاطة أمام مجلس الأمن قبل أسبوع تقريباً في 29/1/2020 بسبب وجوده بوقت متزامن في دمشق للحصول على موافقة من النظام لإرسال وفده إلى الجولة الثالثة من أعمال اللجنة الدستورية، التي كانت قد تعطّلت بعد جولة واحدة من انطلاقها، وفشلت في عقد أي اجتماع مشترك لها في الجولة الثانية.

لكن كان على الأمم المتحدة أن تتحلّى بالشجاعة الكافية لتوصيف ما حصل بدقة في الجولة الثانية والأسباب الحقيقية لفشلها والطرف الفعلي المسؤول عن تعطيلها، لا أن تزوّر الوقائع بالطريقة الفجّة التي جاءت في الإحاطة، فقد زعمت نائبة المبعوث أنّه "حالت المنازعات بين الرئيسين المشاركين على جدول الأعمال دون اجتماع الهيئة المصغرة خلال الجولة الثانية" والحقيقة المعروفة للقاصي والداني هنا  أن الرئيس المشترك عن المعارضة كان قد قدّم مقترح جدول أعمال الجولة الثانية قبيل انطلاقها التزاما بمدوّنة السلوك والممارسات الإجرائية للرئيسين المشتركين التي كانت قد أُقرت من جانب الهيئة الموسعة للجنة الدستورية في الجولة الأولى، فيما لم يقدم رئيس وفد النظام أي شيء، بل وصل الأمر إلى  التعنّت في رفض جميع المقترحات الخمسة التي قدمها السيد هادي البحرة، واستمر وفد النظام في المماطلة إلى اليوم الأخير من الجولة الثانية ليعيد طرح ما كان طرحه في الجولة الأولى بالبدء بمناقشة ما سمّاه الركائز الوطنية والاتفاق عليها، ثم البدء بمناقشة الدستور، وهو ما يعني فعليا إخراج اللجنة عن صلاحياتها وولايتها المنصوص عليها في القواعد الإجرائية، ولا يمكن بحال من الأحوال أن تسمّي نائبة المبعوث موقف الرئيس المشترك عن المعارضة بوجوب الالتزام بولاية اللجنة وصلاحياتها أنه منازعات حدثت من طرفه مع رئيس وفد النظام، وكان عليها تسمية الأشياء بمسمياتها.

إحاطة نائبة المبعوث استفزّت أعضاء مجلس الأمن بشكل حاد، مندوبة الولايات المتحدة علّقت على الإحاطة بالقول"علينا أن نكون صادقين وواضحين بشأن السبب في شلل اللجنة الدستورية والعملية السياسية بأن الحقيقة البسيطة هي أن نظام الأسد مصمم على السعي إلى إنهاء النزاع عسكريا وليس سياسيا". وكذلك علّق ممثل أستونيا في أن "الجمود في عمل اللجنة الدستورية هو نتيجة مباشرة لعدم رغبة السلطات السورية ذاتها في الالتزام الكامل بالعملية السياسية"، وأكّد المندوب الألماني أنه "ليس من المستغرب أن يقرر النظام السوري بدءاً من الجولة الثانية من المحادثات عرقلة عملها وتأخيره".

إذن وكما قالت المندوبة الفرنسية كنّا "نتوقّع من الأمم المتحدة أن تقدم سرداً دقيقاً للعقبات التي تعترض العملية وأن تحدد بوضوح المسؤولين عنها".

هذا التوجّه الجديد في عمل المبعوث الخاص مثير للقلق، وينبغي على هيئة التفاوض واللجنة الدستورية تقديم اعتراض رسمي عليه، قبل أن تكبر المشكلة وتستفحل، وينتج عنها عواقب وتعقيدات تفرض وقائع جديدة في العملية السياسية يصعب التراجع عنها مستقبلاً.