الثلاثاء 2019/10/08

فقط اللون الأصفر سيتغيّر على الخارطة شمال شرق سوريا!!

سوريا بعد عام 2011.. خارطة الألوان المتحركة. هذا ما دأبت وكالات الإعلام، ومراكز الدراسات العسكرية والسياسية على تلوينه بدقّة، حسب تبدّل الجهات التي تسيطر على الأرض، اللون الأحمر "الدمويّ" للنظام، والأخضر للجيش الحر، والأصفر لمليشيات ب ي د الكردية، والأسود للتنظيمات المصنفة على لوائح الإرهاب العالمي مثل تنظيم الدولة، وتنظيم القاعدة.

كانت هذه الألوان أقرب إلى الأعلام التي ترفعها القوات التابعة لهذه الجهات الأربع، بعد كل معركة كبيرة أو صغيرة، أو اتفاق مصالحة، كان ما يحدث فقط أن يتم تبديل اللون، وتبديل "الأرقام الجغرافية" حسب النسب المئوية لمساحاتها.

ما خلف الخارطة كانت تحدث الأشياء المهمة التي لا يكترث لها العالم الذي يهتم بالصورة الظاهرة للخارطة أكثر من اهتمامه بما جرى وأدّى إلى تغيير اللون، خلف الخارطة كان يحدث القتل الذي يطال المدنيين العزّل، أكثر مما يطال المتقاتلين، والتدمير الذي يركّز على المنازل والمنشآت المدنية من مشاف ومدارس وأسواق، أكثر مما يركّز على المواقع العسكرية، والتهجير الذي يعرّض المدنيين هو الآخر للجوع والبرد والمرض، وفقدان أبسط وسائل العيش، أو سدّ الرمق والبقاء على قيد الحياة. والاعتقال الذي كان من بين تهمه العمالة للّون السابق. ببساطة ما خلف الخارطة كان يقصّ كلّ قصص الكوارث والمآسي والانتهاكات الإنسانية في أعلى صورها في العصر الحديث.

"الأرقام الإنسانية" التي تتغيّر هنا تكتسب أهمية فقط حين يكون لها أثر على الدول القريبة أو البعيدة من حيث عدد اللاجئين والنازحين، والتبعات السياسية والاقتصادية المترتبة على هذه الدول "داخلياً" بسبب وجود اللاجئين على أراضيها، ومن حيث الأموال التي يلزم ضخّها من المانحين الآخرين لتوفير الحدّ الأدنى للحياة، ومنع المهجّرين من عبور الحدود والتماس حياة جديدة آمنة.

على الأبواب الآن عملية عسكرية شمال شرق الفرات، سواء بدأت أو لم تبدأ، أو مهما كان حجمها، لكنّ مبرراتها وأهدافها معلنة بشكل واضح، وهي كالعادة مفهومة ومؤيدة من أطراف ستستفيد منها، فيما هناك أطراف أخرى تعارضها وتتضرر منها، وفي النهاية العملية ستكون حلّاً موضعياً ومؤقتاً لعدد من القضايا والمشاكل العالقة لا أكثر.

التطورات هذه تأتي بين إعلان الأمين العام للأمم المتحدة عن تشكيل اللجنة الدستورية، وبين الاجتماع الأول لها نهاية هذا الشهر، في أول خطوة نحو الحل السياسي وفق بيان جنيف وقرارات مجلس الأمن الدولي، وهذا بحدّ ذاته دلالة على استمرار التجاذبات الدولية، وأن الوضع على الأرض ذاهب باتجاه التصعيد، وليس باتجاه التهدئة التي كانت متوقّعة حال بدء أعمال اللجنة الدستورية، فانسحاب الولايات المتحدة فيما لو تم حسب إعلان ترامب أمس، سيفتح السباق من جديد على منابع النفط والغاز والثروات الأخرى المتوفرة في المنطقة، من طرف النظام وحلفائه الروس والإيرانيين، فالنظام يرى فيها فرصة لاستعادة بسط سيطرته على المنطقة وترميم اقتصاده المنهار من خلالها، والروس يريدونها فشلاً للأمريكيين في تثبيت نفوذهم هناك، والإيرانيون الذين يريدون استعادة الممر البري إلى جنوب لبنان وشواطئ المتوسط، وعلى الطرف الآخر سيرى فيها تنظيم الدولة فرصة للثأر من وكلاء الولايات المتحدة مليشيات ب ي د التي طردتهم واعتقلت العديد من عناصرهم وعائلاتهم، وأساءت لهم في مخيّم الهول.

الولايات المتحدة ستزيد من تسليح المليشيات الكردية نكاية بتركيا، ولخلق المشاكل لها، لكن المليشيات هذه ستجد نفسها محاطة بعدد من الأعداء دون غطاء التحالف الدولي، وفي بيئة عربية معادية أصلا لها جنوب المنطقة الآمنة، وهي بدفعها خارج منطقة "الحلم التاريخي" لإقليم "روج آفا" ستفقد إرادة القتال، ولا يستبعد أن تتخذ قراراً بتسليم المنطقة كلها ومنذ الآن للنظام، وعقد صفقة معه في سبيل منع تركيا من دخولها، وإعادة اللاجئين السوريين "العرب" إليها.

في كل السيناريوهات المتوقعة لا يوجد ما يشير إلى اقتراب حل كلي أو جزئي، بل الاتجاهات تذهب نحو تعقيد المشهد-المعقّد أصلاً-وهذا ما يثير التساؤلات حول جدّية ما يسمّى المسارات السياسية المفتوحة إن كان من طرف الأمم المتحدة في جنيف، أو الدول الضامنة الثلاث في أستانا، أو المجموعة المصغّرة للدول السبع، وستجد اللجنة الدستورية نفسها في مأزق كانت تودّ تفاديه على الأقل في انطلاق عملها، هذا إذا لم تكن هي الأخرى ستصبح قريباً من التاريخ، كما كان ذلك شأن مناطق خفض التصعيد التي طواها الزمان.

قد يتغيّر اللون الأصفر على الخارطة السورية خلال عدة أيام، لكن قد يكون ذلك هذه المرة أيضاً هو الشيء الوحيد الذي سيتغيّر.