الثلاثاء 2019/11/12

دستور الأسد الذي تحطّم بعد أربعين سنة، هل ستحطّمه اللجنة الدستورية مرة ثانية؟

الأسد الابن الذي واجه ثورة شعبية عارمة ضد حكمه الذي ورثه وورث معه كل مساوئه، أراد القيام بحركة إصلاحية لترضية الشعب الثائر ضده، فعمل على تغيير الحكومة-حدث ذلك ست مرات-، وتغيير الدستور عام 2012، ومع أنّ ذلك يعدّ اعترافاً ضمنياً منه أنهما من أسباب الثورة عليه، لكنّ ذلك لم يكن كافياً، فسادُ الحكومات بقي كما هو، ولم يعالج الدستور العيوب الكبرى التي تكرّس الاستبداد أولاً، ولم يلبِّ مطالب السوريين في صون حريتهم وكرامتهم ثانياً، وكان هناك أمران آخران يجب القيام بهما، وأصر الأسد على رفضهما:

الأول: التوقف عن تزوير الانتخابات.

الثاني: التوقف عن "إرهاب الدولة" عبر الجيش والأجهزة الأمنية، التي استمرت أدوات قمعها العنيفة بيد الابن كما كانت بيد الأب، مجازر حماة وحلب وتدمر تشهد لإرهاب الأسد الأب، وما جرى بعد 2011 يشهد لإرهاب الأسد الابن.

هذه القضايا الأربع يدركها المجتمع الدولي تماماً، ولذا ستكون هي محور قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومجلس الأمن، للوصول إلى حل في سوريا، وهي التي تضمّنها القرار 2254، الحكم الانتقالي، والدستور الجديد، والانتخابات الحرة والنزيهة، ومكافحة الإرهاب بشقيه الرئيسيين: إرهاب الدولة "النظام"، والإرهاب الذي استجلبه النظام من كل أصقاع الأرض لمنع السوريين من الوصول إلى مطالبهم التي نادوا بها.

تخلّى الأسد عن حكوماته واحدة تلو الأخرى في محاولة بائسة منه في إقناع السوريين أنها سبب مصائبهم من جانب، وتحميلها تصاعد الثورة عليه من جانب آخر.

في دستور 2012 هناك شيء ملفت للنظر، تخلّى الأسد عن "الشعارات الزائفة" التي باسمها حكمت عائلة الأسد الشعب السوري ما يزيد عن أربعين سنة، لكنه أبقى على أسبابه الوجودية الثلاثة: أوّلها صلاحيات الرئيس، وثانيها شروط ترشيحه وانتخابه،وأضاف في المادة التاسعة والأربعين أن "انتخابه" واجب على المواطنين، بمعنى أنهم يعاقَبون على عدم فعله، وثالثها تعزيز دور الجيش، والقوات المسلّحة أي "الأجهزة الأمنية والشرطة والمليشيات"، ووضع الجيش في مقدمة الدستور باعتباره "الضامن الرئيس والحامي لسيادة الوطن"، وأضاف في المادة السادسة والأربعين إلى الخدمة العسكرية الإلزامية أنها "واجب مقدّس"،ليجعل من التهرب من الالتحاق بالخدمة العسكرية الإجبارية، أو الانشقاق عنها بمرتبة الخيانة!! يمكن القول إنّ دستور 2012، هو دستور الرئيس وأدواته القمعية: الجيش والأجهزة الأمنية.

تخلّى النظام عن الأساطير التي كان يتوارى خلفها، ففي مقدّمة دستور 2012، تحطّمت أسطورة "حزب البعث العربي الاشتراكي وثورة الثامن من آذار المجيدة" لعام 1963 التي جاءت به إلى السلطة، وتحطّمت "الحركة التصحيحية المباركة" في السادس عشر من تشرين الثاني لعام 1970 التي قادها الأب، وتحطّم كذلك النظام الاشتراكي "الضرورة العقائدية للجماهير العربية في معركتها ضد الصهيونية والامبريالية".

سادت هذه الأساطير بين 40-50 سنة في البلاد، وأجبر السوريون على الإيمان بها، وكانت هي السائدة في مقدمة دستور نظام الأسد الأب عام 1973.

مضى دستور 2012 في إزالة ذيول هذه القضايا استماتة منه في لفت النظر عن "مواد الاستبداد" التي تضمن استمرار حكم الرئيس، وصلاحياته المطلقة، والحصانة الممنوحة له، والتي هي أسّ المشكلة التي أنتجت النظام الديكتاتوري، والتي تسبّبت بهذه الثورة العارمة عليه.

أزال دستور 2012 حزب البعث حين أزال المادة الثامنة التي تنصّ على أنه "الحزب القائد في المجتمع والدولة"، وأزال "الاقتصاد الاشتراكي" للدولة في المبادئ الاقتصادية، وأزال "الثقافة القومية الاشتراكية" و"إنشاء جيل عربي قومي اشتراكي" من المبادئ التعليمية والثقافية،

دستور 2012 صُنع خصّيصاً للرئيس!

ليس مجازفة أن يقال إنّ دستور 2012 هو دستور "بشار الأسد" جملة وتفصيلاً، وإنّ "الرئيس" الذي أمر بوضعه "للإصلاح" كان مستعداً للتخلّي عن كل شيء-ما عدا الأجهزة الأمنية والعسكرية- مقابل تمرير المواد الخاصة به.

أولاً وبعكس دستور 1973 سلب دستور 2012 مجلس الشعب أولى اختصاصاته وهي "ترشيح رئيس الجمهورية" كما كان في المادة الحادية والسبعين الفقرة الأولى، فالبلاد في حالة حرب، وهذه القضية "الحسّاسة" لا تحتمل المفاجآت، ومجلس الشعب حسب دستور 1973 كان يتلقّى الترشيح من "القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي" وتقتصر مهمة مجلس الشعب على عرضه للاستفتاء عليه، إلاّ أنّ إلغاء دور الحزب كان سيمنح المجلس حق ترشيح أحد من خارج "كتاب الأمر" الذي كان يصدر من القيادة القطرية التي سقط دورها بسقوط المادة الثامنة سالفة الذكر، وأسند هذا الدور لـ "قيادة قطرية جديدة" يسمّيها دستور 2012 "المحكمة الدستورية العليا" يقدّم لها طلب ترشيح مؤيد من 35 عضواً من أعضاء مجلس الشعب، وتقوم هي بفحص الطلبات والبتّ فيها، وللعلم فقط فإن المحكمة هذه، وبنصّ دستور 2012 في المادة 140 تتألّف من سبعة أعضاء على الأقل "يسمّيهم رئيس الجمهورية بمرسوم".

أضاف دستور 2012 ثلاثة شروط يجب توفرها في المرشح للرئاسة:

الأول: "أن يكون متمتعاً بالجنسية العربية السورية بالولادة، من أبوين متمتعين بالجنسية العربية السورية بالولادة" حسب الفقرة 2 من المادة 84.

الثاني: "أن يكون مقيماً في الجمهورية العربية السورية لمدة لا تقلّ عن عشر سنوات إقامة دائمة متصلة عند تقديم طلب الترشيح" حسب الفقرة 5 من المادة 84.

الثالث: "لا يجوز لمن يحمل جنسية أخرى، إضافة للجنسية العربية السورية، أن يتولّى مناصب رئيس الجمهورية، أو نائبه، أو رئيس مجلس الوزراء أو نوابه، أو الوزراء أو عضوية مجلس الشعب، أو عضوية المحكمة الدستورية العليا"

يبدو الرئيس مطمئناً تماماً، أو على يقين من عدم وجود معارض داخل البلاد يمكن أن يترشح مقابله للرئاسة، لكنه يبدو قلقاً أو مرعوباً من "المعارضة الخارجية" ولذا فصّل هذه المواد على مقاس منع أي واحد منهم من الترشح ضده، للاحتمال القوي بنجاحه مع وجود ما يزيد على نصف الشعب السوري خارج سيطرة الأسد.

بالطبع لم ينس الرئيس أن "يصفّر عدّاده" كما يقال، ليضمن 14 عاماً أخرى في الحكم، إضافة إلى الـ 14 عاماً التي سيكون قضاها حين تحلّ انتخابات عام 2014.

منذ أيام قلائل انطلقت أعمال اللجنة الدستورية في جنيف، ومع عيوب الدستور الحالي الكثيرة، إلّا أنّه يجب التركيز بشكل زائد على معالجة قضية "الرئيس" و"الأجهزة الأمنية والعسكرية"، والذهاب إلى حدّ منع الأوّل من الترشح بأي شكل من الأشكال، والمطالبة بسوقه إلى محاكم جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وإلى المطالبة بتفكيك الأجهزة الأمنية والعسكرية، أو إصلاحها بشكل جذري، وإعادة هيكلتها من جديد، وإخضاعها للسلطة المدنية، وإحالة المتهمين منها بارتكاب الانتهاكات إلى المحاكم.