الخميس 2021/01/28

اللجنة الدستورية والأجندة التفاوضية

بقلم: الدكتور عبد الحميد عواك

 

اللجنة الدستورية بين الشرعية والمشروعية

جميع الكيانات الثورية في كل الثورات يتم اصطفاؤها من الجسم الثوري ذاتيًا، وعبر التاريخ لا يوجد كيان ثوري منتخب، إذ إن الانتخابات قصةٌ أخرى لاحقة يأتي تفاصيلها بعد انتصار الثورات.

لكن من يعطي لهذه الكيانات مشروعيتها هو أداؤها ومدى تمسكها بمبادئ وقيم الثورة، فإذا رأيت جسمًا يمثل الثورة ولا يرضى عنه الثوار فهو جسم يعمل خارج مبادئ الثورة، وبالتالي هو لا يحمل شرعية الانتخابات، ولا مشروعية رضا الثوار عن فعله، ولا يحق له التكلم باسم الثورة والثوار.

اللجنة الدستورية من نقطة تشكيلها وتأسيسها جاءت مخالفة لسنن الثورات وتقاليدها، فلم تُوجد نتيجة اصطفاء ذاتي، بل هي اختيار دول وتدخل في قضية سيادية وفرض ممثلين.

وقد أقدمت الأمم المتحدة على تسمية (وفد المجتمع المدني) مُخالِفةً بذلك توصيتها في العدد رقم 2625 تاريخ 24 أكتوبر 1970 لمبدأ الاستقلالية الدستورية للدول الأعضاء، الذي ينصُّ على أن لكل دولة الحق في اختيار نظامها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي بكل حرية.

استراتيجية اللجنة وتكتيكها

إن اللجنة الدستورية كانت تستطيع التخلص من إشكالية التشكيل وعدم اصطفائها ذاتيًا من الثوار لو أنها استطاعت في أداءها في الجولات السابقة إقناع من تدعي تمثيلهم، أي حيازتها للمشروعية بعد أن فقدت الشرعية في أصل تأسيسها، وربما يتساءل البعض: ما المقياس عندك بأن اللجنة لم تُمثل الثوار أو أن الفئة الثورية لم تقتنع بالأداء؟ هذا التساؤل يقودنا لمناقشة وتحليل الأداء التكتيكي للجنة الدستورية في الجولات، والاستراتيجية التي تم وضعها من قبلهم.

تتجلى الحقيقة بأن وفد المعارضة تمَّ تشكيله من منصات تحمل في تفاصيلها الاختلاف أكثر من الاتفاق، وبنظرة خارجية لأي مراقب تتجلى تلك الحقيقة بأعضاء متنافرين من منصات مختلفة يحملون أجندة مختلفة يتعارض بعضها مع قيم الثورة، لذلك من الطبيعي جدًا أن نشاهد الخلافات داخل صفوفها، بل من غير الطبيعي ألَّا يختلفوا، لكن الخطأ أنهم اختلفوا قبل أن يدخلون بالتفاصيل الدقيقة التي تتطلبها مفاوضات صياغة الدستور.

 وهنا نُسجِّل ملاحظتين:

الأولى: كان يجب عليهم منذ البداية حتى يحافظوا على وحدتهم (غير الموجودة)، وأن يضعوا قاعدة استراتيجية تتلخص بمحاربة الاستبداد فقط، وتأجيل معاركهم الثانوية لمرحلة ما بعد القضاء على الاستبداد؛ لأنهم متفقون على محاربة الاستبداد، ومختلفون في غيره.

والأخرى: أن أوراق المعارضة تمَّت صياغتها منذ البداية من منطلق أن أعضاء اللجنة الدستورية هم أعضاء يريدون كتابة دستور، في حين كان يجب صياغتها من منطلق أوراق التفاوض على كتابة دستور، وبين المنطلَقين فرق كبير؛ إذ إن من يريد كتابة دستور إما أن يقسِّم العمل بين أعضائه وفق أقسام الدستور، أو يختار لجنةً لصياغة الدستور، وأعتقد بأن اللجنة الدستورية عملت على تقسيم العمل بين أعضائها وفق أبواب الدستور أو أقسامه.

أما من يريد أن يتفاوض على كتابة دستور، كما هو حالنا، عليه أن يحدد الأولويات التي تهمه ومدى تأثيرها على الطرف الآخر، ومن هذه الزاوية فإن ما يهم المعارضة بالدرجة الأولى هو تغوّل رئيس الجمهورية على جميع السلطات، وهذا أدى إلى دكتاتورية عانى منها الشعب كثيرًا وثار لأجل ذلك، ومن جهة أخرى طرح هذا الموضوع على طاولة التفاوض له أثر كبير على وفد النظام.

لكن الحقيقة المُرّة أن وفد النظام عمل من منطلق التفاوض على كتابة دستور، لذلك كان تكتيكه وفق مصالحه ووفق تناقضات المعارضة، فهو يبتعد عن كل ما يضره، ويضع أولوياته وأجندته على هذا الأساس، وسيقوم باللعب على تناقضات المعارضة واختلافاتهم التي يعلمها جيدًا؛ لأجل تحقيق هدفه في إبقاء سلطة النظام.

الأجندة على طاولة المفاوضات:

يرى علم الاجتماع السياسي أن الطرف القوي في أي عملية سياسية هو الذي يحيل العملية السياسية إلى الاهتمام فقط بالمسائل التي يرغب في إثارتها، واتخاذ قرارات بشأنها، فيعمد إلى وضع جدول أعمال يتناسب مع ما يريد، ويحجب عن خصمه المسائل التي يريدها، هذا الحجب عن الخصم يمنعه من اتخاذ قرار بشأن تلك المسائل.

لذلك عملية وضع الأجندة من طرف دليل على قوته في أي عملية سياسية، والمتتبع لجولات اللجنة الدستورية يلاحظ بأن الأجندة منذ البداية جاءت لمصلحة وفد النظام

الذي اختار أن يبدأ الحوار على المبادئ العامة (اسم الدولة، وعلاقة الدين بالدولة، ومفهوم السيادة) وغيرها..، وهذه جميعها لا تؤثر على المركز القانوني لرئيس الجمهورية الذي تريد المعارضة بحثه، ولا على سلطته الدكتاتورية.

والحقيقة أن وفد النظام ومن أرسله لا تهمه هذه المبادئ بشيء، ولا النتيجة من الحوار على هذه المبادئ، ولا الصيغة التي تُكتب بها مستقبلاً، إنما هي ورقة يستخدمها لغرضين، الأول: تضييع الوقت وتمييع المسار الذي تريده المعارضة، والآخر: تفجير الخلاف داخل وفد المعارضة؛ لأنه يعلم يقينًا أنهم مختلفون بهذه النقاط أكثر من اتفاقهم على إسقاطه، لذلك لن يتزحزح عن المبادئ العامة إلا بتحقيق الغرضين.

والحقيقة الغائبة عن وفد المعارضة أن هذه النقاط هي معارك وهمية في ظل سلطة استبدادية، ولا يمكن كتابة المبادئ قبل سقوط الاستبداد والتحول الديمقراطي الذي يسمح بالحوار وطرح جميع الأفكار حتى يصل السوريون إلى نقاط اتفاق حول المبادئ العامة.

الجولة الخامسة وقضية الانتخابات الرئاسية:

قبل بدء الجولة الخامسة للتفاوض على الشؤون الدستورية، طرح النظام قيامه بإجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها، وهنا كان يجب على وفد المعارضة التقاط هذه الفرصة، وإرسال رسائل للمنسق الأممي والدول المعنية بالصراع السوري تُبيِّنُ فيها رغبتها بوضع الانتخابات على جدول الأعمال، وذلك للأسباب التالية:

أولاً-إن أَوْلَى المعنيين بمناقشة مسألة الانتخابات الرئاسية والتوقف عندها هي اللجنة الدستورية؛ لأن الانتخابات الرئاسية قضية دستورية بحتة، فهي موجودة بجميع دساتير العالم، وحتى الدستور السوري الحالي عالجها، فقد وردت شروط الترشح بالمادة 84 من الدستور الحالي (دستور 2012)، وقد عمد الدستور إلى إقصاء جميع السوريين المُهجرين من ممارسة حق الترشح في البند الخامس الذي نصَّ على "أن يكون المُرشَّح مقيمًا في الجمهورية العربية السورية لمدة لا تقل عن عشر سنوات إقامة دائمة متصلة عند تقديم طلب الترشيح" كما ربط طلب الترشيح بموافقة وتأييد البرلمان الحالي (م85-فقرة 3)، ومن هنا نستنتج أن النظام يعمل على ضخ الدماء في مؤسساته المتآكلة والآيلة للسقوط في ظل صمت من هياكل المعارضة الرسمية.

ثانياً-ورقة الانتخابات تُعدُّ تكتيكيًا فرصة أعطاها النظام، وكان يجب التقاطها من قِبل المعارضة لتكون مفتاح دخول الأجندة التي ترغب المعارضة بمناقشتها، وإجبار النظام على الدخول بها، ولو استطاعت المعارضة ممارسة حقها الطبيعي بوضع هذا الملف على أجندة التفاوض لوضعت المادة 155 من الدستور الحالي للنقاش، حيث تنصُّ على ما يلي:

"تنتهي مدة ولاية رئيس الجمهورية الحالي بانقضاء سبع سنوات ميلادية من تاريخ أدائه القسم الدستوري رئيسًا للجمهورية، وله حق الترشح مجددًا لمنصب رئيس الجمهورية، وتسري عليه أحكام المادة / 88 / من هذا الدستور بدءًا من الانتخابات الرئاسية القادمة."

هذه المادة الباطلة أخلاقيًا وقانونيًا، فهي لا تصلح أن تكون قاعدة قانونية لفقدانها للعمومية والتجريد.

ثالثاً-قضية الانتخابات الرئاسية قضية مفصلية كان يجب الرد عليها بشكل مفصَّل، والتوقف عن إجراء الجولة الخامسة، ولفت أنظار العالم لخطورة هذا الإجراء المنفرد،

وإصدار بيان يُوقِّع عليه أعضاء اللجنة الدستورية من طرف المعارضة (الخمسون)؛ من أجل وضع هذه القضية على جدول التفاوض، وسيكون الأمر اختبارًا لجدية المجتمع الدولي في رعاية ونجاح العملية السياسية، وإن تم رفض البيان فإن هذا المجتمع موافق على التسويف والمماطلة، وعندها يجب توقف المفاوضات لحين تعطيل قرار النظام بالانتخابات الرئاسية القادمة.

لكن بما أن أعضاء اللجنة من قِبل المعارضة ذهبوا إلى الجولة الخامسة دون الالتفات إلى ورقة الانتخابات الرئاسية كأنها غير موجودة بعد أشهر ويحضر لها النظام ويمهد لحقبة ربما ستكون الأسوأ بكل أبعادها على السوريين كافة، فمن الطبيعي ألَّا يلتفت أحد من المجتمع الدولي إلى قضية الانتخابات الرئاسية في المناقشات الدستورية الحالية.

رابعاً-محاولة وضع الانتخابات على أجندة التفاوض هو اختبار أيضًا لقوة وفد المعارضة سياسيًا، فإذا لم يستطيع التغيير في أجندة التفاوض، كيف سيستطيع إحداث تغيير في القضايا المتفاوض عليها؟!

وما نعتقده أن وفد المعارضة لن يتجرأ على إجراء أي اختبار لقوته وتأثيره؛ لأننا نراهم مثل طالب ذاهب إلى الامتحان وهو معتمد على النقل من الآخرين، فقوته يستمدها منهم، فإن غابوا عن الامتحان سقط سقوطًا مدويًا.