السبت 2020/12/12

الأسد أمام “وزارة الأوقاف”: تحريض العرب السنّة على خوض “حرب مقدّسة” شمال شرق سوريا، أم تفجير للّجنة الدستورية؟

الأسد محشور في الزاوية تماماً، والأبواب الموصدة في وجهه يشتدّ إغلاقها يوماً بعد يوم، بعد أن كان يمنّي النفس في فتحها من أطراف، وبعد أن ظنّ أنّ أطرافاً أخرى قد شرّعت أبوابها لإنهاء قطيعته، وللتطبيع معه.

أربع سنوات عجاف قادمة متوقّعة مع إدارة بايدن، وضراوة قانون قيصر، وتشريع قوانين عقوبات جديدة تلوح في الأفق، وتهديد بعدم الاعتراف بشرعية الانتخابات الرئاسية، والفشل في استجلاب أموال إعادة الإعمار بذريعة عودة اللاجئين، قد تبدو هي العوامل التي دفعت الأسد نحو هذا الخطاب "المتشدّد" بعد أن يئس من النجاة.

من جانب آخر خزائن النظام الإيراني فارغة، وقواته تتلقى مئات الضربات الإسرائيلية على الأراضي السورية، بل وصلت إلى الأراضي الإيرانية، ومسألة سحب هذه القوات أو تخفيضها للحدود الدنيا صار مسألة وقت فقط، والأمر نفسه ينطبق تقريباً على "حزب الله" اللبناني الذي يعاني من الانهيار الاقتصادي الذي تمر به الحكومة اللبنانية.

البلاد على حافة الكارثة المعيشية، ورئيس النظام لم يجد مناصاً من افتتاح كلمته بها، ليربطها مع القضايا الأمنية مباشرة بالقضايا الفكرية ، وليصل إلى غايته في أن اليوم "الفكر هو الدين" وأنّ الدين يتعرّض لمعركة تخريب مستمرة منذ قرن تقريباً، بدءاً من تحريف آيات القرآن وصولاً إلى تغيير مضمونه لأسباب سياسية، واتهم تيار الليبرالية الحديثة بقيادة هذه المعركة، وهنا بيت القصيد فالليبرالية هذه تعمل على " تسويق الانحلال الأخلاقي بشكل كامل وفصل الإنسان عن أي مبادئ أو قيم أو انتماءات أو عقائد من أجل الوصول لأهدافها" ومن أمثلتها العملية "تسويق الزواج المثلي" وأنّ " الطفل لا يختار دينه بنفسه وأن هذا تعدّ على حريته" وتسويق المخدرات على أنها ليست ضارة، وقوننة بيعها علنياً في المتاجر، وتسويق " أن الطفل يولد لا ذكراً ولا أنثى.. هو يختار لاحقاً إن كان ذكراً أو أنثى".

كانت الغاية النهائية من هذا الهجوم الكاسح على الليبرالية إظهار القلق من أنها "تحوّل مرجعية الفرد من المرجعية الجماعية، إلى مرجعية الفرد، وهذا يؤدي إلى "الانسلاخ عن الأسرة والانسلاخ عن الوطن" ويصبح الفرد بلا انتماء.

ختم رئيس النظام هذا "الموشّح" الديني بالقول أن مؤسسة المشايخ الجالسين بين يديه هي من وقفت في وجه هذه الهجمة "الإلحادية تمييزاً لها عن العلمانية التي يؤمن هو بها" وكرّست الدين الصحيح الذي نراه اليوم في سوريا.

النقطة الثانية كانت التحذير من الهجمة على اللغة العربية لغة القرآن وحامل الفكر والثقافة، وأن ضرب اللغة بمثابة ضرب العقيدة لأنهما مترابطان، وعاد للحديث عن تشكيك الليبرالية بعروبة سوريا، وبعروبة القرآن، وبعروبة الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلّم، وذهب للتدليل على عروبة سوريا عرقاً ولغةً منذ الألف الأول قبل الميلاد، وأنه يجب حسم عروبة هوية سوريا - لايمكن تغييرها- كحضارة وحيدة مع أنه يوجد إلى جانبها عدد من الثقافات والأعراق.

النقطة الثالثة كانت الحديث عن أهمية " المُسلَّمات التي تمثّل القيم والعادات والتقاليد والمفاهيم التي يبنى عليها المجتمع" وعلى رأسها "الرموز والانتماءات الوطنية،والقومية، والعادات والتقاليد، والأسرة" وأن هناك إنجازات مهمة عملت عليها المؤسسة الدينية مثل قانون الأحوال الشخصية، وقانون الأوقاف، ووضع تفسير جديد للقرآن الكريم، والأهم من ذلك كله أنّ المؤسسة استطاعت "تكريس أو تثبيت أنه لا يمكن للإنسان أن يكون مؤمناً حقيقياً وخائناً لوطنه-يقصد نظام الأسد- بالوقت نفسه".

تاريخ نظام الأسد العدائي للدين الإسلامي عموماً، والمذهب السنّيّ منه خصوصاً لا يخفى على أحد، تشهد عليه أحداث حماة، وسجن تدمر، ومنع ارتداء الحجاب، وإغلاق المعاهد الدينية، والتحكّم الأمني المطلق بالمؤسسات الدينية، لذا أيضاً لا يصدّق أحد أن الأسد خائف على دين الناس من التغيير أو التخريب.

إذن ما الذي وراء هذا الخطاب؟

هناك احتمالان حسب سياق الأحداث الجارية في البلاد:

الأول: يريد النظام شنّ حملة عسكرية جديدة، يستهدف بها منطقة شمال شرق سوريا، وعينه على حقول النفط والقمح، للخروج من أزمته الاقتصادية.

المنطقة يسيطر عليها حزب العمال الكردستاني PKK، وفروعه مثل ميلشيات PYD، و YPG، وهو في فكره شيوعي ماركسي، لا يؤمن بالأديان، وينحو منحى الليبرالية الحديثة في نظرته للأسرة والمرأة والطفل، والحريات الشخصية، والعادات والتقاليد، وهو حزب كردي يعمل على تغيير المناهج الدراسية، وفرض اللغة الكردية على أبناء القبائل العربية الأصيلة في المنطقة.

من هذين البابين يريد النظام تحريض "العرب السنّة" ليكونوا وقود هذه المعركة، مع تراجع متوقع كما سلف لدور الميليشيات الإيرانية، وغيرها من الميليشيات الشيعية اللبنانية والأفغانية والباكستانية، بسبب تراجع مواردها، كذلك بسبب التراجع الكبير في أعداد عناصر جيش الأسد النظامي من أبناء الطائفة العلوية، الذين قُتِلَ منهم ما يزيد عن مائة ألف عنصر على مدى السنوات الماضية، ولم يستطع تعويضهم حيث يستنكف الآن الكثيرون منهم عن الالتحاق بالتجنيد الإجباري، أو التطوع، وفضّلوا الهروب من البلاد مع اللاجئين الآخرين الفارّين من عنف النظام.

الأسد وضع قاعدة خطيرة في ثنايا حديثه حين قال: "مصالحنا لا تنفصل عن عقائدنا لأن العقائد أنزلت من أجل المصالح" ويريد أن يجعل هذه المعركة مصلحة وطنية عليا، وبالتالي الانخراط فيها هو جزء من عقيدة المؤمن بوطنه، والتقاعس عنها خيانة، لذا يحتاج إلى شيوخ المؤسسة الدينية لوصف هذه الحرب بأنها حرب مقدّسة.

الاحتمال الثاني: مشاركة وفد النظام في الجولة الخامسة للجنة الدستورية في جنيف أصبحت محسومة، وستدخل لأول مرة في مناقشة قضايا دستورية حسب جدول الأعمال المتفق عليه سلفاً، وأوراق النظام المقدمة كبنود لجدول الأعمال تتطابق مع هذا الخطاب أمام "وزارة الأوقاف"، حول هوية الدولة، ومبادئها السياسية والثقافية والاجتماعية، من حيث عروبتها، واسمها، ولغتها، ودين رئيسها، ومصدر التشريع فيها، وقانون الأوقاف والأحوال الشخصية الذي سيحكم بها، وقضايا مثل الشعور بالانتماء إلى كامل الأراضي الوطنية، والولاء للوطن والدفاع عنه، ورفض تقسيمه، أو أي مشروع انفصالي عنه، وعدم المساس بالرموز الوطنية كالعلم والجيش والنشيد الوطني.

هذه القضايا في عرف المفاوضات السياسية تعتبر شروطاً مسبقة، والنظام يعلم أنها قضايا شائكة، وشديدة التعقيد، وأنها قضايا خلافية في صفوف المعارضة، والنظام يرمي من وراء الإعلان عنها الآن استباق الجولة الخامسة، وتفجيرها، وتحميل المعارضة وزر ذلك، ووصمها بالخيانة الوطنية، والتفلّت من العروبة، والتحلّل من الدين والأخلاق والعادات والتقاليد، وبذلك يخلو له الطريق لإجراء انتخاباته دون منغصّات.

دائماً ما توصف المرحلة الانتقالية بين إدارتين أمريكيتين، بأنها مرحلة جمود سياسي للولايات المتحدة، وقد يكون النظام يخطط لانتهاز هذه المرحلة الانتقالية لتحقيق مكسب ما.