الثلاثاء 2018/11/27

أيهما أرخص.. إصلاح الديكتاتور أم الإطاحة به؟

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية دأبت الولايات المتحدة الأمريكية على التدخل العسكري في العديد من أنحاء العالم تحت شعارات مختلفة، كان أهمها الدفاع عن الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان. أيام الحرب الباردة كان ذلك يندرج تحت "مناهضة الشيوعية" ومنع انتشارها، ليتحوّل إلى "إسقاط امبراطوريات" و"محور الشر"، وليستقر أخيراً على "مكافحة الإرهاب".

البداية حرب 1951 ضد كوريا "الشيوعية"، ثم الإطاحة بحكومة مصدق في إيران 1954 إثر قرار تأميم البترول وتقليص سلطات الشاه حليف الولايات المتحدة، والتدخل العسكري الفاشل في كوبا بخليج الخنازير 1961، وحرب الثمان سنوات في فيتنام 1964، ثم دعم الانقلاب الدموي في إندونيسيا 1965 وإيصال سوهارتو إلى الحكم، ثم قلب نظام الحكم اليساري للرئيس التشيلي "سلفادور اللندي" والوقوف إلى جانب الجنرال بينوشيه  1973، تبعها التدخل العسكري 1980 الذي أدى لسقوط حكومة نيكاراغوا في أمريكا الوسطى، ثم إرسال جنود المارينز إلى لبنان 1983، ثم التدخل في بنما 1990 واعتقال رئيسها "مانويل نورييغا" وسجنه في الولايات المتحدة الأمريكية، ثم حشد نحو نصف مليون جندي أمريكي في حرب الخليج الأولى 1991،ثم التدخل في الصومال 1992، ثم احتلال هاييتي 1994، ثم عمليات القصف الجوي في يوغوسلافيا 1999، ثم كانت أوسع العمليات العسكرية بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر2001، وتمركزت في أفغانستان ضد تنظيم القاعدة وحكومة طالبان، ثم في العراق لإسقاط نظام صدام حسين 2003.

لم يكن هناك فرق كبير بين رئيس جمهوري أو رئيس ديمقراطي، الحروب تمت في عهد الحزبين الحاكمين تحت الشعارات السابقة كما سبق، لكن يبدو أن الولايات المتحدة دخلت طوراً جديداً في ظل رئاسة ترامب، الدولار عند ترامب يعني صوت الناخب الأمريكي لا أكثر، لذا هو يريد إنفاقه على الناخب ليشتري صوته، ترامب يعد أعظم إنجازاته مئات المليارات التي جناها من صفقات السلاح، ومن العقوبات الاقتصادية التي فرضها هنا وهناك في أنحاء العالم حتى طالت أقرب حلفاء الولايات المتحدة، ولا يزال يذكّر المواطنين الأمريكيين بعدد فرص العمل التي صنعها لهم بعدما وصل للحكم.

أما صورة أمريكا كدولة مدافعة عن حقوق الإنسان وحماية الحرّيات والديمقراطيات والمساهمة في دعم منظمات الأمم المتحدة الثقافية والاقتصادية والتنموية وغيرها، فهذا لا يهم ترامب ما دام يكلّفه بعض المال، ترامب يكتفي اليوم بسياسة "التنمّر" أي الصراخ والوعيد فقط "سأعاقبكم" التي انكشفت عند كثير ممن كان يتهددهم ويتوعدهم، وهم اليوم يدركون أنه ليس عليهم دفع الثمن الباهظ الذي يطلبه ترامب مقابل السكوت عنهم، يمكن أن يساوموه على الثمن، درس الأمير السعودي "محمد بن سلمان" في قضية مقتل الصحفي "جمال خاشقجي" ومئات المليارات التي دفعها لترامب والتي قد لا تكون هي في النهاية طوق النجاة، ستساعد أمثاله على إعادة "تسعير" ترامب في سوق السياسات الدولية. لكن وجه الولايات المتحدة يتغير، هل ستحمي الديكتاتوريات مقابل كسب المال؟ أو على الأقل عدم خسارته على الإطاحة بهم؟ ستكون سياسة فجّة ولا أخلاقية، لذا يجب أن يوضع لها عنوان آخر هو إصلاح الديكتاتور أو تهذيبه، أو تغيير سلوكه، أو تثقيفه وتربيته وتعليمه، كل هذه المعاني تندرج في الألفاظ التي يستخدمها السفير الأمريكي "جيمس جيفري" في معرض حديثه عن "الأسد الشرير". سيكون ذلك أرخص "مادياً" ولا شأن للولايات المتحدة في الكلفة البشرية والمعنوية التي يتكبّدها الشعب السوري.

لننظر آخر لقاءات جيمس جيفري مع مؤسسة "ديفنس وان" التي كانت بعنوان: " كيف هي النهاية؟ من الحرب إلى السلام في سوريا وما بعدها" في 15 تشرين ثاني/نوفمبر 2018.

تغيير سلوك النظام:

يقول جيفري عن سياسة بلاده: "نحن لم نتدخّل من أجل تغيير النظام بحدّ ذاته أو الإطاحة بشخص، بل هدفنا هو تحقيق تغيير، أي تغيير جذري في سلوك النظام بحيث يتمكّن هذا النصف من السكان الذين فرّوا من ديارهم من العودة، وبحيث يصبح بمقدور الجيران العيش بسلام"، المشكلة عند جيفري مشكلة أمن دول الجوار، وحل مشكلة الدول المستضيفة للّاجئين السوريين بإعادتهم إلى بلدهم، يمكن أن نستنتج أنه لو بقيت المشكلة داخل سوريا، ولم تُحدِث موجة لاجئين، يعني لو أن الأسد استطاع منع مغادرة هؤلاء اللاجئين واعتقلهم أو قتلهم كما فعل بمئات الآلاف غيرهم، فلن يكون هناك مشكلة معه أصلاً.

إعادة الأسد إلى رشده:

أكبر عقوبة تهدد بها الولايات المتحدة نظام الأسد أنها ستمتنع عن تمويله!

نعم هكذا وبكل بساطة يقول جيفري: "برنامج عقوباتنا ضد نظام الأسد، وسياستنا المبنية على عدم تقديم أية دعم لإعادة الإعمار من قبلنا أو أي أحد آخر حتى يبدأ النظام بالتعاون مع الأمم المتحدة، وبالتالي لدينا مجموعة واسعة من السياسات وأدوات السياسة إن صح القول، ونحن نحاول إعادة الأسد إلى رشده".

يشعر السامع أنه أمام حالة طفل مدلل يرتكب بعض المخالفات فيهدده والداه بقطع المصروف (الخرجيّة) عنه حتى يعود إلى رشده!.

وضع نظام الأسد أفضل، ولا يحتاج أن يكون وحشياً بعد اليوم! 

يقول جيفري عن نظام الأسد: "هو على كل حال الآن في وضع أفضل ولا يحتاج إلى أن يكون وحشياً بعد اليوم كما كان من قبل.

تثقيف وتهذيب الأسد!!

يقول جيفري: "سياستنا على المدى الطويل تهدف، إن صح التعبير، إلى تثقيف نظام الأسد والروس، وفي نهاية المطاف الإيرانيين، وجعلهم يدركون بأنهم لن يحصلوا على وضع أفضل مما هم عليه الآن دون تقديم تنازلات في المسار السياسي وفي التسوية النهائية لهذا النزاع المستمر منذ سبع سنوات".

التنازلات المقصودة في المسار السياسي وفي التسوية النهائية واضح أنها لا تعني أبداً التخلي عن السلطة في سوريا، وإنما تعديل السلوك لا أكثر.

إصلاح "الحكومة السورية" وسيلة لجذب المساعدات الدولية وإعادة الإعمار!

يقول جيفري:" الحكومة السورية يتم إصلاحها بشكل كاف بحيث تجذب المساعدات الدولية لإعادة الإعمار لأنه ليس فقط نحن من يرفض تقديمها في الوقت الراهن بل بقية المجتمع الدولي، ومعظمهم يمتنعون عن تقديم المساعدة إلى أن يشجّع نظام الأسد أولئك النصف من السكان الذين فروا على العودة طواعية".

عند هذه النقطة يبدو أن عقل المتحدّثة مع جيفري من طرف مؤسسة "ديفنس ون" لم يستوعب ما يسمع عن سياسة دولة عظمى تاريخها مليء بالقوة، هي أمام أمريكا جديدة لا تعرفها، هل يمكن أن تنهار كل القيم والأخلاق أمام المال الذي يسعى إليه ترامب؟ عادت المتحدثة بعد عرض جيفري إلى سؤال مركز جداً:

هل هذا ممكن مع وجود الأسد؟

كان الجواب موارباً بشكل فاضح: "هذا غير ممكن مع تصرف الأسد بالطريقة التي تصرف بها في السنوات السبع الأخيرة". استنكرت المتحدثة الجواب وأنه ليس هذا سؤالها، كان جواب جيفري: "أعرف أن هذا ليس ما سألته وأنا تعمدت ألا أجيب عن السؤال الذي طرحته"، أكدت المتحدثة مرة ثانية: "كنت ستقول إنه من الممكن أن يغير سلوكه؟" كان الجواب الأخير لجيفري: "في حال غير سلوكه، وأكرر مرة أخرى، يعود الأمر إلى الشعب السوري ليقرر، فقد تعلمتُ وكثير منكم هنا ربما تعلموا أنه عندما نحاول العبث بالدساتير والحكومات في البلدان الأخرى، فإننا نخطئ في كثير من الأحيان بقدر ما نصيب في أخرى".

ما الذي نريده من هذا العرض؟

يبدو أنه لا شيء سيمر عبر الأمم المتحدة، مجلس الأمن وقراراته الدولية معطلة بفعل الفيتو الروسي، ولا يبدو أن هناك عودة حقيقية للولايات المتحدة إلى الملف السوري للوصول إلى حل نهائي، نعم هناك عودة موضعية شمال شرق البلاد فقط، وأن سياسة الانتظار ستحكم المرحلة الحالية إلى أن يقتنع نظام الأسد وحلفاؤه بأن عليهم القيام بعملية إصلاح ذاتية تُعيد تأهيل النظام، وتُعيد له كامل حقوق عضويته في المجتمع الدولي.