الخميس 2019/04/25

ماذا يعني انتقال المعارضة السياسية السورية إلى الداخل؟

رغم أنها خطوة وصفها الجميع بالمتأخرة، وشكك الكثيرون بجدواها، وبين ترحيب مفرط بالتفاؤل، وآخر حذر، إلى أطراف يتوقع أن تعلن رفضها التام، وتهدد بإفشالها، إلا أنها صارت واقعاً ملموساً ويجب التعامل معها كجزء من مشهد الحالة السورية في المراحل القادمة.

لا شك أولاً أنها نقطة تحوّل كبيرة ومهمة في مسار المعارضة السورية أن تنفّذ واحداً من أهم أهدافها الاستراتيجية التي طالما تحدثت عنها في وثائقها ومبادراتها السياسية، لكن يبقى السؤال الأهم، ما الذي دفع المعارضة لتنفيذ خطوتها هذه في هذا الوقت بالتحديد، فمثل هذا القرار لا يمكن اعتبار توقيته اعتباطياً، أو طارئاً، أو استجابة لرغبات أو ضغوط خارجية، ولا حتى لظروف داخلية بحتة، فهل جاء القرار نتيجة مجموعة هذه العوامل جميعها؟

قبل يوم واحد فقط من الجولة الثانية عشرة لمباحثات أستانا في العاصمة الكازاخية "نور سلطان" التي انطلقت اليوم 25/4/2019 برعاية الدول الضامنة الثلاث: روسيا وتركيا وإيران، وبعد تعطيل استمر لمدة عام ونصف تقريباً لمباحثات جنيف برعاية الأمم المتحدة، إثر توقّف الجولة الثامنة منها، أتى افتتاح مقر "الائتلاف الوطني السوري" قرب مدينة الراعي على الحدود السورية التركية شمال البلاد.

البدء بالحدث القريب "أستانا" يرسل رسالة واضحة بعدم قناعة المعارضة بهذا المسار، بل يمكن القول إنها رسالة بإعلان فشله في أن يساهم مساهمة حقيقية في إيجاد حل سياسي للحرب المستمرة منذ ثماني سنوات، وأن اتفاقات الحلول العسكرية المؤقتة عبر مناطق خفض التصعيد الأربع قد تمّ نقضها واحدة تلو الأخرى، فيما بقيت إدلب لكنها تحت سيطرة تنظيم القاعدة التي طردت الحكومة السورية المؤقتة التابعة للائتلاف من مناطق عملها، بما يعني أن المعارضة ترى نفسها اليوم خارج إطار مسار أستانا بالكامل، أما ما يتعلّق باللجنة الدستورية فموضوعها بشكل فعلي ليس من أعمال مسار أستانا حصرياً، وإنما تلعب الأمم المتحدة والعديد من الدول فيه أدواراً رئيسية تفوق أدوار الدول الضامنة الثلاث.

كذلك هذا التوقيت يعني من جانب آخر عدم رضا الجانب التركي عن هذا المسار، وخصوصاً بعد مشاهدتها للتسابق والتنافس الحاصل بين روسيا وإيران على توقيع عقود الاستثمار طويلة الأجل في إدارة بعض مرافق الدولة السورية، أو استثمار المناجم والثروات الباطنية فيها، إضافة لتنافسهما العسكري الذي وصل إلى حد الاصطدام بينهما في بعض الجبهات مثل حلب حسب بعض التقارير الصادرة مؤخراً، ولذا سهّلت تركيا قرار المعارضة السياسية بفتح مقراتها في الداخل كورقة ضاغطة على هاتين الدولتين للعمل بجدية في مسار أستانا، واستخدام نفوذهما لدى النظام السوري لإجباره على عدم عرقلة إطلاق اللجنة الدستورية التي لا زالت التوقّعات تشير إلى إمكانية الإعلان عنها في هذه الجولة من محادثات أستانا.

أيضاً أتى هذا القرار بعد زيارات متعددة من المسؤولين الأمريكيين للمعارضة السورية بشتى أصنافها، تحدث فيه الأمريكيون بصراحة عن فشل مسار أستانا، وعدم قدرته في المستقبل البعيد أو القريب على وضع أسس للحل السياسي، وكذلك اعتراضهم الشديد على الدور الإيراني في هذا المسار، والذي يتعارض مع الاستراتيجية الأمريكية في تحجيم نفوذ إيران في المنطقة. هذه الزيارات التي أعطت إشارات للمعارضة في عودة الدعم الغربي الأوربي والأمريكي لها، وكانت أحد العوامل التي شجّعت الائتلاف على نقل مقره للداخل، باعتبار تلاقي المصالح الأمريكية والتركية، فعلى الجانب الشرقي لنهر الفرات لا تزال المفاوضات جارية لحسم موضوع المنطقة الآمنة، وما يسمّى جنوب المنطقة الآمنة، فالمنطقة الآمنة ستكون محاذية للحدود التركية وبعمق يسير لا يتعدى 20 ميلاً في أبعد حالاته، ليضيق في حالات أخرى إلى أقل من 4 أميال، بحيث تتناوب القوات التركية والأمريكية في الإشراف عليه بالشراكة مع أبناء المنطقة حسب كثافتهم السكانية لحل إشكالية وجود المليشيات التابعة لحزب العمال الكردستاني -التي تصنّفها تركيا منظمة إرهابية- على الحدود التركية، وبالتالي منع إقامة إقليم أو دولة كردية منفصلة عن الدولة السورية.

جنوب المنطقة الآمنة هذه وصولاً إلى شواطئ الفرات في محافظتي دير الزور والرقة سيُعهَد إلى المعارضة بإدارتها، وبسبب الغالبية العربية الموجودة فيها، فمن المستحيل أن يُعهد للمليشيات الكردية بذلك، وبدخول المعارضة السياسية إلى الداخل سيكون متاحاً لها أن يكون لها الدور الأكبر في إدارة هذه المناطق، فيما لو توصّلت الولايات المتحدة إلى تفاهمات مع تركيا في قبول مشاركة "مجلس سوريا الديمقراطية" في إدارتها جنباً إلى جنب مع المعارضة التي تدعمها تركيا، والولايات المتحدة تعمل على ذلك منذ فترة لفتح حوار ومصالحة بين الأطراف الكردية أولاً "مجلس سوريا الديمقراطية" و"المجلس الوطني الكردي" لفتح الطريق تالياً أمام حوار ومصالحة بين المعارضتين العربية والكردية، بعد أن تكون قد زالت مخاوف تركيا من نشوء كانتون كردي على حدودها، وضمنت قضايا أمنها القومي الداخلي.

إذن إدارة هذه المناطق التي ستمتد على أراضي شمال سوريا بالكامل من حدودها الشرقية إلى حدودها الغربية، تحتاج ليس فقط إلى إدارة تنفيذية كانت تقوم بجزء منه الحكومة السورية المؤقتة، إنما تحتاج أيضاً في المرحلة المقبلة إلى وجود المعارضة السياسية المعترف بها دولياً إن كان من طرف الأمم المتحدة، أو من طرف جامعة الدول العربية كممثل شرعي ووحيد للشعب السوري، أو كممثل له ومحاور عنه في المفاوضات التي ترعاها الأمم المتحدة استناداً لقرارات مجلس الأمن، ووجود المعارضة السياسية في الداخل سيعطيها قوة ومكانة أكبر بكثير عمّا كانت عليه سابقاً في هذه المفاوضات، ستنازع المعارضة ولأول مرة النظام في مبدأ السيادة الذي يريد الاستمرار في احتكاره لنفسه.

تعطيل المفاوضات بعد هذه الخطوة لن يكون في صالح النظام قطعاً، فنجاح المعارضة في تقديم نموذج حكم جيد في مناطقها، سيدفع بالمجتمع الدولي إلى دعم هذه المناطق بما يصل إلى البدء بمشاريع إعادة الإعمار فيها، ومع تقدم مستوى الأمن والخدمات يمكن اعتبارها مناطق آمنة تسمح بالعودة التدريجية للاجئين إليها، وهو ما يحقق مصالح كبيرة لعدد من الحكومات الأوروبية، ودول الجوار التي تعاني من أزمة اللاجئين السوريين فيها.

يعلم النظام الآن أنه أخطأ في تصنيف "سوريا المفيدة" وأنها خارج سيطرته اليوم، وهي المناطق الغنية بالنفط والغاز والمياه والكهرباء والزراعة، وهو في أزمته الاقتصادية الخانقة التي يعيشها سيكون في موقف صعب حين إجراء مقارنة بينه وبين مناطق المعارضة التي لا تعاني من هذه الأزمات.

هذه هي المعطيات التي دفعت بالمعارضة إلى اتخاذ قرارها، وهي لا شك أمام تحديات صعبة عليها أن تواجهها مستفيدة من كل تجاربها وأخطائها السابقة، لكن ستبقى "هيئة تحرير الشام" واحدة من أكبر التحديات الداخلية فيما لو اعتبرت خطوة الائتلاف هذه خطوة عدائية باتجاهها، وقامت بشنّ حرب على الجيش الوطني المنضوي في الحكومة السورية المؤقتة، بدل أن تتفرّغ او تعاود قتال قوات النظام العاجزة اليوم تماما عن التقدم في مناطق سيطرة المعارضة، وبذلك تعمل على ضرب هذا المشروع الذي يفتح للسوريين فسحة أمل واسعة لاستعادة حياتهم الطبيعية بعيداً عن سلطة عائلة الأسد.

هل ستفعل "هيئة تحرير الشام" ذلك؟ لم يصدر إلى الآن تصريحات رسمية عن الهيئة، لكن موقفها لن يتأخر غالباً!!