الأحد 2019/02/24

ماذا ستفعل قوة “حفظ سلام” أمريكية صغيرة شرق سوريا؟


الجسر للدراسات...


قرار الرئيس الأمريكي ترامب حول سحب جنوده من سوريا، تعرّض لمعارك سياسية كبيرة داخل الإدارة الأمريكية. فبعد يوم واحد فقط من هذا القرار قدّم وزير الدفاع جيمس ماتيس استقالته، ولم تقتصر الخلافات بين الجمهوريين، بل تعدّت ذلك إلى الديمقراطيين، ثمّ إلى المشرّعين، لتنتقل المعركة إلى أروقة دول حلف الناتو التي اتخذت هي الأخرى قراراً مماثلاً بسحب جميع قواتها من سوريا حال خروج الجنود الأمريكيين.

بين مبررات أن الانسحاب يأتي استجابة للوعود الانتخابية التي قطعها ترامب بإعادة الجنود الأمريكيين إلى الوطن، أو أنه يجب أن تنتهي حقبة الحروب التي لا تنتهي التي خاضتها الولايات المتحدة في تاريخها، مع استحضار حرب فيتنام ثم أفغانستان والعراق، أو أن سوريا "أرض الرمل والموت"، ولا فائدة ستعود على الولايات المتحدة من خوض غمار حرب فيها، قد تتوسّع لتصبح حرباً مع قوى كبرى، أو أن تركيا يمكنها أن تملأ الفراغ الذي تتركه القوات الأمريكية بعد انسحابها، كان هذا بعد المكالمة الهاتفية الشهيرة بين الرئيسين التركي والأمريكي.

في النهاية انتصر المعسكر المناهض لقرار الانسحاب الكامل، فمع أن ترامب أعلن القضاء على تنظيم الدولة شرق سوريا، إلا أنّ المتحدثة باسم البيت الأبيض "سارة ساندرز"، فاجأت العالم في بيان مقتضب جداً صرّحت فيه بإبقاء "مجموعة صغيرة لحفظ السلام من نحو 200 جندي في سوريا لمدة من الوقت".

الدواعي والمبررات المعلنة لهذا القرار الجديد المفاجئ كانت عديدة، تدور بين منع عودة ظهور تنظيم الدولة على المدى القريب أو البعيد، فالمحللون السياسيون والعسكريون الأمريكيون يتوقعون عودة ظهور التنظيم باسمه وشكله الحالي في فترة تتراوح بين ستة إلى اثني عشر شهراً، وأن العملية العسكرية الأمريكية برمّتها لا تعدو كونها عملية "قص عشب" سيعاود الظهور قريباً، أمّا عملية "استئصال الإرهاب من جذوره" فهي تحتاج إلى مشروع إصلاح سياسي واقتصادي في منظومات الحكم بالمنطقة كلها، بحيث يزول الشعور بالتهميش والاضطهاد عن الغالبية العظمى من أفراد شعوبها، أو أن تنظيمات إرهابية جديدة ستولد مرة تلو الأخرى مستغلّة مشاعر التهميش والاضطهاد هذه.

المبرر الثاني أن الانسحاب الكامل من شرق سوريا يتناقض تماماً مع مساعي الولايات المتحدة بتحجيم النفوذ الإيراني في المنطقة، وقطع الممر البري بين طهران وجنوب لبنان المهدد لأمن تل أبيب، وفيما كان متوقعاً من الإدارة الأمريكية تشديد الخناق على نظام طهران وخصوصاً عقب مؤتمر وارسو، يرى المتابعون أن الانسحاب الأمريكي يمهّد الطريق للتمدد الإيراني، وتقوية نفوذه واستفحال خطره وليس العكس.

المبرر الثالث كان قضية الميليشيات الكردية التي قاتلت مع القوات الأمريكية شرق الفرات، وأنه حال الانسحاب الأمريكي فالولايات المتحدة-حسب زعمها-تخشى أن تتعرّض هذه القوات "للذبح" على يد الجيش التركي الذي يعتبرها منظمة إرهابية تتبع لحزب العمال الكردستاني، وأن الانسحاب في هذه الحالة سيعتبر خيانة لحلفاء الولايات المتحدة وضاراً بمصداقيتها، كما إنه قد يدفع بالمليشيات الكردية لعقد صفقة مع النظام وروسيا، وهو الأمر الذي لا ترغب به الولايات المتحدة في هذه المرحلة على الأقل.

هذه المبررات المعلنة ليست هي كل الحقيقة، إن كان هناك سبب حقيقي أو رئيسي فهو يتمحور حول تركيا، والتنازع الأمريكي الروسي حول عدم خسارتها من الطرف الأول، وكسبها من الطرف الثاني، كيف ذلك؟

أولاً: صفقة الصواريخ الروسية S400 التي تصرّ الولايات المتحدة على إلغائها بسبب تأثيرها السلبي البالغ على منظومة أسلحة حلف الناتو فيما لو دخلت ضمن منظومة السلاح التركي الذي هو عضو في حلف الناتو، والولايات المتحدة تعرض منظومة صواريخ باتريوت كبديل لهذه الصفقة، وهو ما لم توافق عليه تركيا حتى الآن، ولا زالت تعلن عزمها المضي في صفقة الصواريخ الروسية.

إضافة للمشاكل التقنية التي ستنجم عن الصفقة مثل تعريض طائرات F35 لرصد الرادارات الروسية بعد دمجها ضمن منظومة الدفاعات الجوية التركية، فإن الولايات المتحدة في صراعها التنافسي مع الروس في سوق السلاح تعتبر تركيا سوقاً خاصاً بها، ولا تقبل بخسارة هذه السوق لصالح غريمها الروسي.

ثانياً: المنطقة الآمنة التي تريد تركيا إقامتها على كامل الشريط الحدودي مع سوريا، وهي في مناطق شمال غرب الفرات ضمنت ذلك عبر عمليتي "درع الفرات" و"غصن الزيتون" واعتبار إدلب ضمن اتفاقات استانا من مناطق خفض التصعيد التي أقامت فيها تركيا نقاط مراقبة، وطردت المليشيات الكردية من هذه المناطق، وانحصر وجودها في مدينة منبج، التي هي الأخرى في طور الدخول في اتفاق أمريكي تركي لتفريغ غرب الفرات من المليشيات الكردية، وتسليم منبج لسكانها المحليين ذوي الأغلبية العربية.

المشكلة تكمن شمال شرق الفرات الذي تنتشر فيه المليشيات الكردية إلى جانب القوات الأمريكية لمكافحة الإرهاب، وهي تقيم فيها الآن "إدارة ذاتية"، وترى تركيا أن هذه المليشيات تسعى بعد نهاية الحرب في سوريا إلى استمرار السيطرة عليها، وتقنين ذلك دستورياً على غرار إقليم كردستان العراق، هذا الإقليم الذي أراد فك ارتباطه بالحكومة المركزية في بغداد، عبر التصويت على إقامة دولة كردية مستقلة شمال العراق، وتركيا التي لم توافق على هذا الاستقلال رغم علاقتها الجيدة مع حكومة الإقليم التي تمثّل جناح البرزاني، لا يُتوقّع أن تقبل بمثل ذلك شمال سوريا بينما هي تخوض صراعاً دموياً عمره سنوات طويلة ضد حزب العمال الكردستاني المصنّف على قوائم الإرهاب في أكثر من مكان في العالم، وهي تعتقل زعيمه "عبد الله أوجلان"، وتعتبر ميليشيا "ب ي د" فرعاً لهذا الحزب الإرهابي، الذي تمتد أذرعه أيضاً على الجانب الآخر من الحدود داخل الأراضي التركية، وأن الحرب عليه في تركيا وفي جبال قنديل نجحت في إفشال مخططات الحزب في تقسيم تركيا، وإقامة دولة كردية على الأراضي التركية، وهو انتقل إلى شمال شرق سوريا ليبدأ تشكيل دولة كردية من هناك لتمتد لاحقاً لتشمل جزءاً من الأراضي التركية، ولذا لن تسمح تركيا بتمرير هذا المخطط بشكل من الأشكال، وهذا ما يفسّر التأكيد التركي على إقامة المنطقة الآمنة شمال شرق سوريا، وإبعاد حزب العمال الكردستاني عن المناطق الحدودية بعمق 30كم تقريباً، أي تطويقه في عمق مناطق القبائل العربية التي ستتولى هي معركة طرده من تلك المناطق، وهذا يفسّر أيضاً العمل على تجميع القبائل العربية في كيان واحد لتتمكن من إدارة مناطقها بنفسها، وإخراج المليشيات الكردية منها، ولو استدعى ذلك قتالها حيث لن تجد الولايات المتحدة مبرراً للوقوف إلى جانب المليشيات الكردية كما تفعل اليوم.

كلا الطرفين الروسي والأمريكي أعطى ضوءاً أخضر للرئيس التركي بإقامة منطقة آمنة، سواء حسب عمق 30كم، أو حسب ما تقتضيه اتفاقية أضنة الموقعة بين تركيا وسوريا عام 1998، لكن كليهما أيضاً لا يريدان ذلك حقيقة، ولم يعد ثمة طريقة لمنع القوات التركية من عبور الحدود السورية شمال شرق الفرات، إلا بإبقاء قوة أمريكية فيها، وبالتالي إبقاء القوات المتعددة التابعة لدول التحالف الدولي، وضم بعض الدول إليها عبر تسميتها "قوة حفظ سلام"، والذهاب إلى مجلس الأمن والحصول على تكليف أممي لها بالانتشار هناك "لحفظ السلام"، وهذا الحل "المؤقت" سيكون مُرضياً لجميع الأطراف: الولايات المتحدة، ودول التحالف، وتركيا، وروسيا، والدول العربية، والمليشيات الكردية، وحتى نظام الأسد.