الخميس 2020/12/03

الانشقاق الثاني في حزب العمال الكردستانيPKK وآثاره على شمال شرق سوريا

عامان فقط قضاهما "عبد الله أوجلان" المولود في تركيا، بعد تأسيسه حزب العمال الكردستاني الماركسي عام 1978، تحت شعار المطالبة بحقوق الأكراد في تركيا في الحصول على وطن قومي خاص بهم، هرب بعدها أوجلان إلى دمشق ثم تبعه العديد من عناصر حزبه، ليحتضنه فيها حافظ الأسد، ويجد فيه ورقة يهدد بها تركيا على خلفيات عديدة على رأسها أزمة مياه تلوح في الأفق قبيل بناء تركيا سد أتاتورك على نهر الفرات.

مارس الحزب نشاطه السياسي في سوريا، إضافة لفتح أول معسكرات تدريب لعناصره في سهل البقاع الخاضع للجيش السوري يومذاك، ثم نقلها بعد إغلاقها بضغط من تركيا والولايات المتحدة على الحكومة اللبنانية عام 1992، إلى داخل سوريا التي سمح له نظامها بفتح معسكرات في ريف دمشق، في بلدات صحنايا، شبعا، النشابيّة.

تزامن وجود عناصر الحزب في جبال قنديل شمال العراق مع وجودهم في لبنان 1982، عبر اتفاق جرى توقيعه في دمشق بين إدريس بارزاني زعيم الديمقراطي الكردستاني وأوجلان، ومنها أعلن أوجلان "الكفاح المسلّح" عام 1984، وبدأ بشنّ الهجمات العسكرية على الأراضي التركية.

رضخ نظام الأسد للتهديدات التركية وأخرج أوجلان من سورية عام 1998، ووقع اتفاقية أضنة، ثم أغلق جميع معسكرات الحزب عام 2002، ليحطّ الحزب رحاله في جبال قنديل بعد اعتقال أوجلان عام 1999، وفيها بدأ ببناء شبكته الدولية عبر تنظيماته وأذرعه السياسية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية والاجتماعية، مبقياً هدفه الرئيسي في مناصبة العداء لتركيا.

الانشقاق الأول حدث في الحزب بين تيار عثمان أوجلان، شقيق عبدالله أوجلان، وتيّار جميل بايك، الأول كان يدعو إلى التقارب مع الأميركيين، بعد إسقاطهم نظام صدام حسين، ووجودهم الواسع في العراق إلى جوار الحزب، ويطالب بإحداث تغيير في ايديولوجية الحزب تقلل ماركسيته، وصرامته العسكرية العالية، والانخراط أكثر في الحياة السياسية والاجتماعية المدنية، وانتهى هذا الصراع لاحقاً بعد عدة تحولات بسيطرة جميل بايك على رئاسة الحزب بدءاً من عام 2013.

يعتبر جميل بايك المولود في تركيا أيضاً أحد الخمسة المؤسسين للخلية الأيديولوجية الأولى للحزب في أنقرة، إلى جانب أوجلان وعلي حيدر قيطان، وكمال بير، وكسيرة يلدرم وحقي قارير.

مع وصول حزب العدالة والتنمية للحكم في تركيا بدأت هذه العلاقة الثلاثية بالسير نحو الانفتاح والمصالحة من جانب تركيا مع كل من حزب العمال، والنظام بعد استيلاء بشار الأسد على السلطة خلفاً لوالده، لكن بوصول جميل بايك لرئاسة الحزب انهارت كل الاتفاقيات التي جرت تركيا، وعاد الحزب لأعماله الإرهابية داخل الأراضي التركية، كذلك انحياز تركيا إلى جانب الشعب السوري بعد الثورة على النظام عام 2011، أعاد الحالة العدائية بين البلدين، وهنا عاد النظام إلى لعبته القديمة في استخدام ورقة حزب العمال الكردستاني للضغط على تركيا من جديد، بدأ ذلك بانسحاب النظام من معظم المقرات الرسمية المدنية والعسكرية والأمنية على الحدود التركية، وتسليمها لحزب العمال الكردستاني، مقابل مشاركة عناصر الحزب في قمع السكان المحليين سواء من العرب، أو الكرد، والعمل على تصفية الرموز الوطنية الكردية من أمثال مشعل تمو، مما اضطر الكثيرين منهم للخروج خارج البلاد.

كان حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) أحد التنظيمات والأذرع التي أنشاها حزب العمال الكردستاني في سورية عام 2003، وأنشأ معها وحدات حماية الشعب (YPG) كجناح مسلح للحزب، ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011، سيطر الحزب وجناحه المسلح على الساحة الكردية، رفض الحزب الانضمام إلى المجلس الوطني الكردي، المظلة الأوسع التي انضوى تحتها أهم الأحزاب الوطنية الكردية، بل عمل على إغلاق مقراتها، ونفي قياداتها مثل ابراهيم برو، واعتقال آخرين من الرموز والناشطين الكرد المشاركين في الحراك الشعبي ضد النظام، وفشلت كل المحاولات التالية لرأب هذا الصدع الكردي عبر اتفاقيات هولير، ليستفرد الحزب بحكم منطقة شمال سورية بكاملها بعد تحالفه مع الولايات المتحدة في الحرب على تنظيم الــ.دولة، وتلقيه مساعدات عسكرية هائلة جعلته القوة الأكبر في المنطقة.

في كل هذا كانت استراتيجية حزب العمال الكردستاني في قنديل الدفع بالكرد السوريين-والعرب المتحالفين معهم- في المناصب العليا في "الإدارة الذاتية" العسكرية والأمنية والسياسية والخدمية، فيما يعلم الجميع في الحقيقة أن قيادة "قسد" قوات سوريا الديمقراطية، أو "مسد" مجلس سوريا الديمقراطي" أو المجالس المحلية، والهيئات والمؤسسات المدنية، أنها كانت تُدار جميعها من قنديل، وأن هؤلاء السوريين لم يكونوا إلا "لُعب" تحركها خيوط الأيادي الموجودة في قنديل.

بعد فترة طويلة من الإنكار لانتقال عناصر من حزب العمال الكردستاني من قنديل إلى سورية، اعترف مظلوم عبدي القائد العسكري لقسد في محادثته مع Crisis Group ، بنزول " الآلاف من المقاتلين الأكراد المدربين من حزب العمال الكردستاني جنبًا إلى جنب مع المتطوعين إلى سورية للانضمام إلى المعركة".

مع تصاعد غضب أنقرة من هذا الوضع على حدودها ضغطت واشنطن على القيادات المحلية السورية من PYD، وقسد ومسد، لفتح الحوار الكردي الكردي، وإعلان الرغبة بالمشاركة في العملية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة في جنيف استناداً لقرارات مجلس الأمن، والمطالبة بالمشاركة في اللجنة الدستورية، ويبدو أنّ بوادر الاستجابة لهذه الضغوط، أثار جميل بايك وأعاد من جديد أجواء الانشقاق الذي حصل سابقاً في قنديل لذا و في سبيل استعادة السيطرة الكاملة على الوضع في شمال شرق سورية بادر إلى إحباط الحوار الكردي الكردي، وشدّد من لهجته اتجاه المجلس الوطني الكردي، وبدأ بعملية تغيير لقيادة الجناح العسكري قسد الذين يميلون للتقارب مع الولايات المتحدة، وخصوصاً بعد تصريحات هذه الأخيرة عن وجوب خروج مقاتلي حزب العمال الكردستاني من سورية وعودتهم إلى قنديل.

ما الذي يمكن أن يحدث؟

انتصار تيار جميل بايك سيكون كارثة على منطقة شمال شرق سورية، فهو سيعطّل أي مسار للحلّ السياسي، ويجعل المنطقة منطقة حرب دائمة، وقد يبدأ بشنّ هجمات إرهابية عبر الحدود داخل الأراضي التركية، وبالتالي جرّ الجيش التركي، والجيش الوطني السوري إلى حرب مفتوحة معه، وفي حال انكساره سيعمل على إعادة تسليم المنطقة للنظام ، على غرار ما فعله في مناطق أخرى، في أقلّ الأحوال سيعمل على تجميد الوضع على ما هو عليه لأطول فترة ممكنة يمكنها الاحتفاظ بها بالسيطرة منفرداً، وحرمان جميع المكونات المحلية من إدارة شؤون المنطقة فعلياً، وإنما السماح لهم بمثل هذه المشاركات الرمزية القائمة حالياً.

قد تذهب الولايات المتحدة نحو دعم مظلوم عبدي وتياره، لكن هذا احتمال ضعيف في ظل تكرار طرح موضوع سحب القوات الأمريكية من شمال شرق سورية، وترك المنطقة للصراعات المحلية والإقليمية، بالتأكيد في مثل هذا الوضع سيحتاج المجتمع الدولي لتوقع أزمات عديدة ستنتج مثل حدوث موجة لاجئين كبيرة مرة ثانية، كذلك مخاطر عودة تنظيم الدولة للظهور في المنظقة.

النظام يروق له الخيار الأول، فهو يمكنه التوصل إلى تفاهمات مع كوادر الحزب على خلفية العلاقة التاريخية معهم، وعلى خلفية النبرة التصالحية التي طالما انتهجها الحزب مع النظام طيلة الفترة الماضية، وهذا يفسّر نوعاً ما تلميح وفد النظام في اللجنة الدستورية إلى غياب جزء من المعارضة عن التمثيل في اللجنة والمقصود بها "الإدارة الذاتية" التابعة لحزب العمال الكردستاني، فالنظام يرى أنّ حضورها سيقوّي جانبه في اللجنة الدستورية، وإلاّ لم يكن حريصاً على ذلك.

الاحتمال الأول هو الراجح حالياً ما لم ترجّح الولايات المتحدة مصالحها مع حليفتها في الناتو تركيا، وتوقف الدعم العسكري لحزب العمال الكردستاني تحت مسمياته "السورية" وبالتالي تعمل على إخراجه تدريجياً من شمال شرق سورية، وحينها يمكن فتح الباب للحديث عن إشراك المنطقة في العملية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة، أو في تفاهمات أمريكية تركية مرحلية تساهم في استقرار المنطقة إلى أن يتمّ الوصول للحل السياسي النهائي في البلاد.