الجمعة 2019/03/22

واشنطن بوست: ما أهمية تراجع النفوذ الأمريكي بالشرق الأوسط؟


بقلم: مارك لانش

المصدر: واشنطن بوست

ترجمة: مركز الجسر للدراسات


سواء اعتبر الأمر مهما أم لا، فإن تراجع نفوذ أمريكا له آثار حقيقية.

لقد كان التقليل من الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط موضوعا ثابتا في العديد من النقاشات التي كانت تجري في كل من واشنطن والمنطقة لعقد من الزمن على الأقل. وفي الوقت الذي يربط فيه البعض تراجع النفوذ الأمريكي إلى تدخل الولايات المتحدة في العراق، يعزو البعض الآخر هذا التراجع إلى فشل الولايات المتحدة في التدخل بقوة أكبر في سوريا، إلا أن التصور السائد اليوم هو أن تراجع النفوذ الأمريكي أمر بديهي.

إن التراجع الملحوظ لنفوذ الولايات المتحدة في المنطقة لا يمكن معاينته بسهولة من حيث القوة المادية. تواصل الولايات المتحدة تفوقها على كل منافسيها المحتملين فيما يتعلق بالإنفاق العسكري، وتحتفظ بمجموعة واسعة من القواعد والتحالفات العسكرية في جميع أنحاء الشرق الأوسط. كما لم يستطع أي من منافسيها الجدد أخذ مكانها، على الرغم من التدخلات الانتهازية لروسيا ودبلوماسية الصين الاقتصادية التي تتميز بالصبر والتأني.

كيف تفاعل حلفاء وخصوم الولايات المتحدة مع هذا التراجع المفترض؟

كيف ترى كل من بيروت وبروكسل الأمر؟ للإجابة عن هذه الأسئلة، قام مركز "بوبست" التابع لجامعة برينستون للعلوم السياسية في الشرق الأوسط بإحضار 16 باحثا إلى الشرق الأوسط  من أوروبا والولايات المتحدة إلى الجامعة الأمريكية في بيروت لمناقشة تأثير تغير البنية العالمية على الدينامية الإقليمية.

قد يكون تراجع النفوذ الأمريكي أكثر مما يبدو عليه في الواقع:

إن التقليل من الوجود العسكري الأمريكي قد أصبح أمرا ضروريا وعلى الخصوص داخل المناطق التي استثمرت فيها الولايات المتحدة الكثير بعد عام 2001 كالعراق أو المناطق التي عرفت موجات عنف بعد التدخل الأمريكي لتغيير الوضع فيها كسوريا. قد تكون شبكة القواعد وأماكن انتشار القوات الأمريكية أقل بكثير مما كانت عليه منتصف عام 2000، إلا أنها أكثر شمولا مقارنة بعام 1990.

إن تراجع نفوذ الولايات المتحدة لا يتعلق بقدراتها العسكرية بقدر ما يتعلق بخياراتها السياسية وعدم قدرتها على استعمال هذه القدرات لتحقيق النتائج المرجوة. فقد أطاح مئات الآلاف من الجنود الأمريكيين بصدام حسين لكنهم لم يتمكنوا من إنشاء دولة مستقرة في العراق. إن إعلان الرئيس باراك أوباما بأنه يتوجب على بشار الأسد تسليم السلطة في سوريا لم يؤد إلى الإطاحة به أو منع دخول البلاد في حرب مروعة. لقد أدت الإطاحة بمعمر القذافي في ليبيا إلى جعل ليبيا دولة فاشلة وأنتجت حربا أهلية لا نهاية لها. كما أدى الدعم الضمني للحرب السعودية-الإماراتية على اليمن إلى طريق مسدود ومأساة إنسانية.

إن السرد القائل بأن التقليل من التدخل الأمريكي في الخارج مبني على أساس اجتماعي لا يجعل الأمر أقل واقعية. فكلما شككت القوى الإقليمية في قدرات أو نيات الولايات المتحدة بشكل علني، تحركت هذه القوى نفسها بشكل مستقل من هذا المنطلق.

التأثير المدمر لانعدام اليقين بشأن سياسة الولايات المتحدة:

زاد من تأكيد هذه التصورات حول تراجع نفوذ الولايات المتحدة حالة عدم اليقين الفريدة من نوعها والعميقة بشأن السياسات الفعلية لإدارة ترامب. فقد عارض معظم القادة في الشرق الأوسط العديد من السياسات التي انتهجتها إدارة أوباما كالاتفاق النووي مع إيران، لكنهم فهموها. في الوقت الذي تتميز فيه سياسات الرئيس ترامب بعدم الاتساق، هذا بالإضافة إلى وجود خلافات داخلية بشكل روتيني والتي غالبا ما تؤدي إلى تغييرات سياسية مفاجئة ورسائل متباينة من مسؤولي الإدارة أنفسهم.

فحتى الحلفاء الإقليميون الذين رحبوا بقرارات ترامب بخصوص السياسات الطويلة الأمد، لم يعد مؤكدا لهم اليوم التزامه بتطبيق بتلك السياسات.

ربما يكون الإسرائيليون قد رحبوا بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، لكن السرية التي تحيط بخطة ترامب الإسرائيلية الفلسطينية للسلام جعلتهم غير متأكدين مما يمكن أن يحدث في المستقبل. كما إن الانسحاب من خطة العمل المشتركة الشاملة، على الرغم من شهادة الوكالة الدولية للطاقة الذرية بامتثال إيران لشروط الاتفاق، ضرب سنوات من الجهود الدبلوماسية المتعددة الأطراف عرض الحائط وألقت بظلال من الشك العميق على التزامات الولايات المتحدة.

هناك قضيتان يمكن اعتبارهما مثالا جيدا على الأثر المدمّر لحالة عدم اليقين بشأن سياسة إدارة ترامب والرسائل المتباينة لمسؤوليها: الحرب السورية وحصار قطر. في وقت مبكر من ولايته، نفذ ترامب ضربة عسكرية رمزية ضد أحد المطارات السورية، اعتقد الكثيرون حينها أن الوضع سيتحول إلى مواجهة قوية مع دمشق. ولكن لم يحدث بعدها شيء، ولم يتغير شيء.

خلال الخريف الماضي، بدأ كبار المسؤولين في الإدارة الأمريكية بصياغة استراتيجية جديدة من شأنها أن تحافظ على وجود عدد كبير من القوات الأمريكية في سوريا باسم مكافحة النفوذ الإيراني. ثم أعلن ترامب فجأة عزمه على سحب جميع القوات الأمريكية من هناك على وجه السرعة. بعد شهور من التخبط السياسي، قيل إن الولايات المتحدة ستُبقي على نحو 200 أو 400 أو 1000 جندي على الأرض داخل سوريا.  لقد جعلت هذه التغيرات السريعة في السياسة الأمريكية الآخرين غير قادرين على صياغة سياسات مترابطة للرد عليها.

ظهرت السياسة نفسها والضعف نفسه خلال رد الولايات المتحدة على حصار قطر. ففي الوقت الذي قام فيه بعض المسؤولين الأمريكيين برفض الخطوة التي قادتها السعودية والإمارات ضد قطر على الفور، قام ترامب بتقويض جهودهم هذه من خلال تقديم دعمه عبر التغريد على حسابه. لم يتمكن مجموعة من المسؤولين والمبعوثين الأمريكيين من إجبار حلفائهم في الخليج على العدول عن موقفهم. وقد أدى هذا التعثر إلى الحد من قدرة الولايات المتحدة على تنظيم عمل مشترك، وزاد من حالة عدم اليقين بشأن النوايا الحقيقية لأمريكا كما عزز من التصور السائد حول ضعفها.

يزيد التحزب السياسي من حالة عدم اليقين هذه. فعلى الجميع اتخاذ إجراءات وقائية ضد نتائج الانتخابات الرئاسية لعام 2020. من المرجح أن يؤدي فوز الحزب الديمقراطي إلى رد فعل عنيف شديد ضد السياسات التي انتهجها ترامب. فغضب الكونغرس لمقتل جمال خاشقجي، وهو كاتب مساهم بقسم الآراء بصحيفة "واشنطن بوست"، والحرب على اليمن، وكذا العلاقة الوثيقة التي تربط ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بفريق ترامب، كلها قد تؤدي إلى تصدع خطير في العلاقات التي تربط أمريكا بالخليج. إن احتمال مشاركة رئيس ديمقراطي للولايات المتحدة في خطة العمل المشتركة الشاملة، يعطي حافزا قويا لكل من أوروبا وإيران للإبقاء على الصفقة قائمة. الأمر الذي لا يدفع كلا من حلفاء أو خصوم أمريكا على حد سواء لتقديم تنازلات كبيرة لإدارة أمريكية مؤقتة. حلفاء أو خصوم الولايات المتحدة لديهم تصوراتهم حول النفوذ الأمريكي.

نادرا ما يمكن اعتبار حلفاء وخصوم الولايات المتحدة لاعبين سلبيين فيما يتعلق بإعادة صياغة سرد تراجع النفوذ الأمريكي. إذ إن لديهم مصلحة إما في إجبار الولايات المتحدة على فعل المزيد أو تشجيع الآخرين على تغيير ردود أفعالهم.

استفادت روسيا من هذا السرد وتأثيره داخل سوريا. فقد لعبت دورا كبيرا في تقويض التحالفات الأمريكية وفرض نفوذها دون تقديم التزامات مادية كبيرة خارج البلاد. قاد هذا التصور العديد من القادة الإقليميين إلى حماية مصالحهم بالنظر إلى عدم قدرتهم على التنبؤ بسياسات الولايات المتحدة من خلال النظر في عروض شراء الأسلحة المقدمة لهم أو الحصول على الدعم العسكري. فاتخاذ إجراءات احترازية لا يعني بالضرورة تغيير التحالفات، على الرغم من سهولة الخلط بينهما.

رحبت الصين بخطوات قادة الخليج الرامية للتركيز على آسيا كوسيلة لتأمين مصالحها الاقتصادية. غالبا ما يتم التغاضي عن الثقل السياسي المتزايد للصين لتجنب الدخول في مواجهة عسكرية معها أو إعطائها دورا سياسيا بشكل علني. تعد دبلوماسية الشراكة والاستثمار في البنية التحتية شكلا آخر من أشكال أخذ الحيطة والحذر بشأن دور أميركا في المستقبل. من جانبها، ترى أوروبا أن التحركات الأمريكية، كالتخلي عن خطة العمل المشتركة والشاملة ونقل سفارتها إلى القدس، يضعفان بشكل فعلي قيادة الولايات المتحدة من خلال افتعال المزيد من الخلافات عبر المحيط الأطلسي. من الصعب على القوى الأوروبية إرسال قوات إلى سوريا إذا كانت لا تعرف النيات الأمريكية، أو إذا كانت أهداف السياسة الأمريكية تتحول من محاربة تنظيم الدولة إلى مواجهة إيران. لكن يمكن عكس هذا التراجع الحقيقي لنفوذ الولايات المتحدة ووجود تحالفات ضعيفة بسرعة بواسطة إدارة جديدة.

ماذا عن الشرق الأوسط؟

إن تزايد الاضطرابات داخل المنطقة وتفاقم التحديات الداخلية والتنافس داخلها يخرجها ببساطة من قائمة أولويات الولايات المتحدة، كما يجعلها أقل قابلية للسيطرة الخارجية. فكلما قامت الولايات المتحدة بترك الأمر لحلفائها المحليين وأبدت عدم استعدادها لبذل الموارد اللازمة لتولي زمام الأمور، زاد عدد حلفائها الذين يمكنهم الحفاظ على مصالحهم الخاصة على حساب مصالحها. فقدرة السعودية على تسخير الولايات المتحدة في حربها الكارثية ضد اليمن دليل على قوة هذه الديناميكية.

حظيت القوى الإقليمية بالكثير من الفرص لتوسيع نفوذها دون قيود، في الوقت الذين كانت تخشى فيه من أن يقوم منافسوها بالأمر نفسه. عكست سياساتهم الخاطئة تحديات داخلية عميقة في الدول الرئيسية. يعتبر القيام بمغامرات سياسة خارجية، الوسيلة الوحيدة للحصول على الدعم الشعبي المحلي، أو صرف الانتباه عن المشاكل الداخلية التي يعاني منها البلد، أو الحماية من التهديدات الخارجية المتصاعدة.

زاد الدعم غير المشروط الذي قدمته الولايات المتحدة للأنظمة الاستبدادية من النزعات القمعية لهذه الأخيرة، الأمر الذي زاد من حالة عدم الاستقرار والصراعات الداخلية.

تعتبر حالة عدم الاستقرار الداخلية التي يعرفها حلفاء الولايات المتحدة الإقليميون أحد أبعاد تراجع نفوذها في المنطقة، حيث إن حلفاءها الرئيسيين والذين كانوا يتحملون حصة كبيرة من العبء الأمني، كمصر وتركيا، قد أنهكهم عدم الاستقرار الداخلي. أما بالنسبة للآخرين، كالسعودية، فقد أصبحوا في حالة من الفوضى وينزعون إلى المواجهة. في الوقت الذي تتضارب فيه الأولويات يتم جر الولايات المتحدة إلى معارك جانبية، الأمر الذي من شأنه أن يسهم في جعل تدهور نظام تحالفاتها أمرا واقعا.