الخميس 2019/03/07

مأساة السياسة الخارجية لدونالد ترامب

بقلم: ستيفن والت

المصدر: فورين بوليسي

ترجمة: مركز الجسر للدراسات


في كل تراجيديا كلاسيكية، عادة ما يكون القائد شخصا يتمتع بصفات جديرة بالإعجاب، بل ولديه نيات حسنة، لكنه سرعان ما يتحول كل هذا إلى كارثة نتيجة لخطأ فادح. فقد عُرف "عطيل" بغيرته القاتلة، في حين كان "مكبث" طموحا جدا، ولم يستطع "هاملت" أن يقرر، أما "فاوست" فلم يكن قادرا على رفض أي عرض يقدم له للحصول على المعرفة والمتعة مقابل روحه. في كل حالة من هذه الحالات، كان عيب واحد يغطي على الصفات الإيجابية لهذه الشخصيات ويضعها على طريق الهلاك.

انطلاقا من هذا المنظور، من الصعب وصف دونالد ترامب بالشخصية التراجيدية. فهو بعيد كل البعد عن كونه بطلا تراجيديا بالنظر إلى عيوبه، عدا عن كونه شخصا مدللا اعتاد العيش بترف كونه سليل عائلة ثرية، ولديه ما لا يعد ولا يحصى من العيوب في شخصيته. بغض النظر عن ملكة الاعتداد بالنفس وإتقانه للغولف والتآمر، فإنه يفتقر إلى العديد من المزايا الأخرى.

ومع ذلك، يمكن اعتبار فترة رئاسة ترامب فترة مأساوية، حتى لو تمكن من تجنب توجيه اتهامات له أو التعرض للسجن أو الفضائح. لماذا؟ لأن ترامب لديه بعض الرؤى الصحيحة والمهمة بخصوص المشاكل التي تعاني منها الولايات المتحدة في الوقت الحالي، وكانت لديه فرصة لتصحيح الوضع عندما تم انتخابه. لكن هذه الفرصة قد أهدرت، وعيوب ترامب كسياسي وخبير استراتيجي وكشخص هي السبب الرئيسي وراء ذلك.

ما الذي فهمه ترامب؟

في عام 2016، عندما وصف السياسة الخارجية للولايات المتحدة بأنها "كارثة حقيقية" وألقى باللوم على النخبة التي لا يمكن المساس بها والتي لا تخضع للمساءلة بخصوص الفشل المتكرر في السياسة الخارجية، كان على وشك القيام بشيء مختلف. فقد كان على حق عندما اتهم حلفاء الولايات المتحدة الرئيسيين بإنفاق مبالغ ضئيلة على وزارات الدفاع –أمر اشتكى منه العديد من الرؤساء السابقين – وكان على حق أيضا بخصوص الأموال التي تنفق والجهود التي تبذل في بناء الدول في أماكن كأفغانستان. كان ترامب وبيرني ساندرز هما المرشحين الوحيدين اللذين أدركا أن العولمة ليست الطريقة المثلى لتحقيق الأهداف المرجوة. وجدت رسالته هذه صدى لدى الأمريكيين من الطبقة العاملة والمتوسطة الذين كانوا قلقين للغاية بشأن قلة فرص العمل، والدخل الثابت، والتساهل بخصوص ضوابط الهجرة. كما اعترف ترامب بأن الصين هي المنافس الرئيسي لأميركا على المدى الطويل وأن بكين لن توقف ممارساتها التجارية الضارية فقط لأن الولايات المتحدة طلبت منها القيام بذلك. وكان ترامب الوحيد الذي اعترف بأن شيطنة روسيا كانت تأتي بنتائج عكسية وتساهم فقط في تقريب موسكو من بكين.

علاوة على ذلك، فقد كانت لدى ترامب وجهات نظر مختلفة بخصوص الشؤون الدولية، ما يعني أن لديه تصورا أكثر واقعية حول السياسة الخارجية، الأمر الذي ساعده على الوصول إلى السلطة. على الرغم من أنه لم يكن مطلعا بشكل كبير على هذه القضايا، إلا أنه قد أدرك أن:

1) السياسة الدولية تنافسية بطبيعتها.

2) السياسة الخارجية بعيدة كل البعد عن الأعمال الخيرية.

3) تسعى جميع الأمم لتحقيق مصالحها.

4) أنه من الغباء المشاركة في مغامرات أجنبية تتجاوز تكاليفها عائداتها.

بعد فوزه الانتخابي المفاجئ، كان ترامب في وضع يمكّنه من رسم مسار أكثر واقعية للبلاد، معتمدا على بعض - وليس كل - المواقف التي اتخذها خلال حملته الانتخابية.

سيطر الجمهوريون على مجلسي النواب والشيوخ، وبدا الأمريكيون أكثر استعداد لتقبل سياسة خارجية تصحح تجاوزات وأخطاء ربع القرن الماضي. قام ترامب بجمع فريق من الخبراء وأصر على أن يتبعوا رؤيته، كان باستطاعته أن يحسن مكانة أمريكا في العالم ويتغلب على العديد من منتقديه. لكن كما هو الحال في كل تراجيديا كلاسيكية، أدى غرور وعناد ترامب وعدم استشارته لفريقه، وغير ذلك من العيوب في شخصيته، إلى خيبات أمل متكررة في الداخل والخارج.

فيما يتعلق بأوروبا، كان ترامب محقا عندما قال إن أوروبا يجب أن تدافع عن نفسها وتتوقف عن الاعتماد على الحماية الأمريكية. تعد أوروبا أكثر ثراء، كما إن لديها سكانا أكثر وتنفق الكثير على وزارة الدفاع أكثر مما تفعل روسيا، وليس هناك سبب مقنع يدفع بالولايات المتحدة إلى إرسال شعبها للدفاع عنها. وبناء على ذلك، كان بوسع ترامب أن يقترح تقليص التزامات الولايات المتحدة بشكل تدريجي - على سبيل المثال، خلال فترة تتراوح بين 5 و10 سنوات - مع التوضيح بأن الولايات المتحدة تسعى إلى ربط علاقات ودية مع أوروبا وستواصل التعاون معها في المجالات ذات الاهتمام المشترك. وبالفعل لربما حاول ترامب استخدام أوروبا للتحقيق في أمر الصين. لكنه لم يفعل ذلك، بل قام عوضا عن ذلك بإهانة القادة الأوروبيين مرارا وتكرارا وقوّى علاقته ببعض القوى السياسية الأكثر تدميرا في أوروبا. كما قام بزيادة ميزانية الدفاع الأمريكية والمساهمة الأمريكية في جهود إعادة التوطين في أوروبا الشرقية، ما منح أعضاء حلف الناتو الأوروبي سببا إضافيا للامتعاض أكثر. للتوضيح فقد حافظ بعض أعضاء الناتو على التزاماتهم بزيادة الإنفاق الدفاعي ولكن ليس بالقدر الكافي الذي يدفعهم إلى التقليل من اعتمادهم على واشنطن. في السياق نفسه، تمكن ترامب من إضعاف علاقات الولايات المتحدة مع حلفائها الرئيسيين دون التقليل من الأعباء الأمريكية.

أما في آسيا، فقد أدرك ترامب أن الصين هي المنافس الأساسي لأميركا على المدى الطويل، وقد حان الوقت للتعامل مع بكين بشأن ممارساتها الاقتصادية. لسوء الحظ، فقد حاول تحقيق هذا الهدف بطريقة غير ملائمة. بدأ ذلك من خلال التخلي عن الشراكة عبر المحيط الهادئ بصورة انفرادية، وهي صفقة تجارية متعددة الأطراف من شأنها أن تفيد الاقتصاد الأمريكي بعدة طرق وتعزز من موقع أمريكا استراتيجيا في آسيا. وبدلا من توحيد أعضاء آخرين في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في جبهة موحدة ضد سياسة الصين التجارية والاستثمارية، هدد ترامب بشن حروب تجارية على العديد منهم في وقت واحد. في الأسابيع الأخيرة، أضعفت رغبة ترامب الملحة في توقيع اتفاق مع بكين فريق التفاوض الخاص به، ما يجعل إحراز تقدم ملموس في هذه القضايا أمرا غير محتمل.

كما إن ترامب مسؤول بشكل انفرادي عن النهج الأمريكي الفاشل بخصوص كوريا الشمالية. مما لا شك فيه أن الترسانة النووية لكوريا الشمالية هي مشكلة قد يعجز أمامها أكثر الخبراء الاستراتيجيين حنكة وأشدهم دهاء، لكن الطريقة التي عالج بها ترامب هذه المشكلة كانت بمثابة حالة نموذجية للتفكير الذي ينبني على التمني المناقض للواقع بشكل كبير. أصر الخبراء داخل وخارج الحكومة الأمريكية على أن بيونغ يانغ لن تتخلى عن قدراتها النووية التي وصلت إليها بشق الأنفس، والتي يعدها الزعيم الكوري الشمالي، كيم جونغ أون ونظامه ضمانا أساسيا لبقائهم على قيد الحياة. إلا أن ترامب خدع نفسه عندما اعتقد بأن جاذبيته ومهاراته التي يعتدها بها ويعتبر نفسه "صانع الصفقات" ستقنع كيم لفعل شيء ليس من مصلحته. لم يفوت ترامب فقط فرصة لتحقيق تقدم ملموس ولو كان هذا التقدم محدودا بخصوص هذه القضية المزعجة، ولكن تعثره أعطى شركاء أمريكا الآسيويين سببا آخر لإعادة النظر في حكمه وكفاءته.

في الشرق الأوسط، كانت سياسات ترامب بعيدة كل البعد عن الواقع. فبدلا من تعظيم نفوذ الولايات المتحدة وسلطتها من خلال ربط علاقات براغماتية مع أكبر عدد ممكن من الدول (مثلما تفعل الصين وروسيا)، تعرض ترامب للخداع من قبل الحكام المحليين وكرر نفس الأخطاء التي أعاقت سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط لفترة طويلة. وبدلا من التمسك بالاتفاق النووي مع إيران والعمل مع الدول الخمس الأخرى للحد من الأنشطة الإقليمية الإيرانية، ابتعد عن الصفقة ولم يحصل على شيء بالمقابل. وسلم عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية إلى زوج ابنته الذي يعتبر غير مؤهلا لتولي صفقة كهذه، وغض الطرف عن سلوك محمد بن سلمان الذي كان يتصرف بشكل عشوائي على نحو متزايد.

حتى عندما يكون حدسه في محله - كما هو الحال عندما أعلن سحب القوات الأمريكية من سوريا – فقد بدا كشخصية هاملت في تردده، هذا بالإضافة إلى تصريحاته غير الرسمية حول استخدام القواعد في العراق لمراقبة إيران دون هدف محدد. ووعوده بعدم تورط الولايات المتحدة في عمليات بناء الدول، قام بإرسال المزيد من القوات إلى أفغانستان (مثلما فعل أوباما)، ومن المرجح أن يكون القتال مازال قائما عندما يغادر منصبه.

ثم هناك روسيا، في عام 2016، أدرك ترامب أن تسوية الخلافات الأمريكية الحالية مع روسيا ستكون مفيدة لأوروبا وروسيا الولايات المتحدة أيضا. لكن بدلا من مواجهة روسيا بشأن أخطائها - بما في ذلك تدخلها المزعوم في الانتخابات الأمريكية - وبدء حوار جاد لحل قضايا مثل أوكرانيا والهجمات الإلكترونية والحد من التسلح، عزز ترامب من الشكوك حول علاقاته مع موسكو (والرئيس فلاديمير بوتين). من سخرية القدر، أنه آخر شخص يمكنه العمل مع روسيا لأن أي جهد جاد للقيام بذلك سيقود المنتقدين إلى اتهامه بأنهم تحت سيطرة بوتين.

أخيرا، إذا كان جوهر الواقعية هو التعامل مع العالم "كما هو" (بدلا من الكيفية التي نود أن يكون عليها)، فإن ترامب شخص يستند إلى الخرافة. فالإنسان العملي سيعترف بالواقع في محاولة لتطوير استجابة سياسية فعالة له. بالنظر لخلفيته وتصريحاته السابقة، وإذعان الحزب الجمهوري له، كان ترامب في موقع جيد لإعادة تنظيم الحزب من أجل التوصل إلى إجماع. وبدلا من الاستمرار في إنكار حقيقة تغير الوضع، كان بإمكانه عكس مساره، والاعتراف بفهم المشكلة والتوصل إلى شيء أفضل من اتفاق المناخ في باريس. لو استطاع ريتشارد نيكسون الذهاب إلى الصين، فربما كان ترامب قادرا على تغيير الأوضاع.

إنها حقا مأساة، على عكس أوباما (الذي يحسده ترامب على شعبيته وكرامته)، دخل ترامب البيت الأبيض على أمل تصفية بعض الالتزامات الأمريكية في الخارج، وإلقاء المسؤولية على بعض الحلفاء المحليين في كل من أوروبا والشرق الأوسط، والتركيز على الصين، والقيام ببعض التعديلات في الداخل. هل تذكرون عندما كان يتحدث عن برنامج بنية تحتية كبيرة، وهو أمر من شأنه أن يوفر المزيد من الوظائف ويسمح للولايات المتحدة بالتنافس على نحو أكثر فعالية خلال هذا القرن؟ للأسف، المبنى الوحيد الذي يتحدث عنه الآن هو جدار لا معنى له ولا يريده معظم الأمريكيين، ولن يجعل البلد أكثر أمانا، وربما لن يتم بناؤه. بعد أكثر من عامين من ولايته الأولى، يعتبر "الإنجاز" الأكثر بروزا في السياسة الخارجية لترامب هو الانخفاض المطرد والحاد في الصورة العالمية لأميركا.

وهذه هي المأساة الحقيقية. ما لم ينته أمر ترامب بسبب مشاكله القانونية، فسيعيش بقية حياته في رفاهية، محاطا بالمتملقين والمتسولين والمنحطين. أما البقية منا هم الذين سيدفعون في نهاية المطاف فاتورة هذا القطار المحطم.