الثلاثاء 2019/02/05

فورين بوليسي: ما الذي يحاول بوتين تحقيقه في سوريا؟

بقلم: دميتري فريولفسكي

المصدر: فورين بوليسي

ترجمة: مركز الجسر للدراسات


لم تطمح روسيا يوماً لأن يكون دورها صغيراً في الشرق الأوسط، بل إن هدفها هو استعادة وضعها كقوة عالمية.

حصلت روسيا على أفضل هدية من إدارة ترامب قبل بداية هذه السنة، وها هي اليوم تملك الحرية التامة لتقرير مصير حليفها الشرق أوسطي، الذي يعيش حالة من الاضطراب.

مع استعداد الولايات المتحدة للخروج من الصراع في سوريا، لن يغيّر الكرملين من استراتيجيته هناك، وذلك لأنها لم تكن يوما حول سوريا. لطالما كان الهدف الرئيسي للكرملين هو جعل نطاق تأثير الحملة الروسية على سوريا يتعدى الشرق الأوسط، ولطالما اعتبر الكرملين الصراع أداة لتحقيق طموحاته؛ لجعل روسيا قوة عالمية.

تعتبر موسكو تخلّي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن سوريا انتصاراً يضيف الكثير إلى رصيدها السياسي، ويفتح أمامها المجال لربط الاتصال مع القادة الأوروبيين في كل من فرنسا وألمانيا، وممثّلة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، لإقناعهم بتبنّي رؤيتها بالتسوية السياسية.

شنت روسيا غاراتها الجوية في سوريا لأول مرة في أيلول/ سبتمبر من العام 2015، في الوقت نفسه كانت هناك محاولات حثيثة لتضييق الخناق على أوكرانيا الشرقية والتي اقترنت بفرض عقوبات على هذه الأخيرة، الأمر الذي سرعان ما أدى إلى انهيار الرصيد السياسي للكرملين. على الرغم من محاولتها الحثيثة للظهور كقوة عظمى وإثارة غضب العالم الغربي عند كل منعطف، فقد كان هدف موسكو الحقيقي هو الحصول على النفوذ الكافي لتُعامَل معاملة الندّ.

فقد كانت أوكرانيا حالة ميؤوساً منها. وفقا لميخائيل زيغار، المحرر السابق في قناة روسية مستقلة، لقد قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لجورج دبليو بوش عام 2008 في قمة للناتو: "إذا انضمت أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، فإنها ستفعل ذلك بدون شبه جزيرة القرم والمناطق الشرقية، الأمر الذي سيؤدي إلى انهيارها". لم يكن الكرملين يوما ليتنازل عن الدول التي كانت ضمن الاتحاد السوفياتي السابق، إذ كانت طموحاته الدولية تتعدى دائما فكرة كونه "قوة إقليمية"، وهي إهانة ردّدها الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما.

عندما تدخلت روسيا في الشرق الأوسط، أصبحت سوريا في حالة من الفوضى، حيث تقاتل آلاف الجماعات بعضها، وبرز تنظيم الدولة كبعبع أثار مخاوف العالم. ومع ذلك، كانت موسكو لا تزال تخشى شبح الحرب الأفغانية التي سبقت انهيار الإمبراطورية السوفييتية، فكانت أشباح الحرب في أفغانستان، التي حدثت في ثمانينات القرن الماضي، لا تزال تؤرق أروقة الكرملين.

قليلون هم الذين أرادوا أن ينتهي بهم المطاف داخل مستنقع آخر في العالم الإسلامي. على الرغم من أمله في تحقيق انتصار سريع بعد الإطاحة بالرئيس الأفغاني حفيظ الله أمين وإعادة تثبيت النظام الشيوعي عام 1979، إلا أن الجيش السوفييتي وجد نفسه في ورطة امتدت عِقداً من الزمن خسر فيها نحو 15 ألف جندي. نتيجة لذلك، قوبلت الحملة العسكرية المحتملة في سوريا بحذر شديد. يعتقد استراتيجيو الكرملين أنه على الرغم من أن التدخل الروسي في سوريا كان مغامرة لا يمكن التنبؤ بنتيجتها، إلا أن المكاسب المحتملة تفوّقت في النهاية على المخاطر.

لقد اعتبر استراتيجيو الكرملين هزيمة تنظيم الدولة ولعب دور رئيسي من أجل التوصل إلى تسوية سياسية في سوريا فرصة لتعزيز مكانة روسيا كقوة عالمية. إن فرصة القتال مع الدول الغربية، إضافة إلى العلاقات الخاصة التي تربط موسكو بنظام الأسد وإيران، التي تولت معظم عمليات القتال على الأرض، سمح للكرملين بتقديم نفسه كقوة تتصدى للشر العالمي المتمثل في تنظيم الدولة، وضمان الحصول على ميزة نسبية مقارنة بمنافسيه.

كان ظهور روسيا كقوة إقليمية هدفاً آخر من أهداف الكرملين. خلال حديثه في الاجتماع العام للجمعية العامة للأمم المتحدة التي انعقدت قبل يومين فقط من الحملة الجوية الروسية، منح بوتين روسيا "دور مُصلِح" من خلال السؤال الشهير الذي طرحه على الولايات المتحدة والذي جاء كالتالي: "هل تدركون ما الذي فعلتموه؟"، لقد وجدت موسكو الفرصة سانحة لملء الفراغ في منطقة للنزاع، والذي زاد مع ازدياد خيبات الأمل بسبب سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. ساعدها ذلك على تحقيق الكثير من المكاسب، إلا أن تدخل روسيا في سوريا لم يكن من أجل إصلاح هذه الأخيرة. لطالما سعى بوتين إلى لعب دور أكبر من "دور المصلح"، لقد سعى لأن تكون موسكو لاعبا إقليميا لا يمكن الاستغناء عنه.

ولم تكن تحركات روسيا نفعية ولا محكومة بالتكتيكات القصيرة الأمد. إذ لم يكن هدف روسيا في سوريا الاستيلاء على ما تبقى، بل فرض سلطتها واستعراض قوتها.

تبين أن مقاربة موسكو كانت لها فوائدها في ظل الاضطرابات التي يعرفها الشرق الأوسط. فعندما يقرر رجل واحد في الكرملين ومجموعة صغيرة من المساعدين كل شيء من خلال مكالمة هاتفية، فإن هذا يتناسب مع الطريقة التي تتعامل بها الأنظمة الاستبدادية في المنطقة.

بعد ثلاث سنوات من القصف المستمر وعبر مختلف القمم السابقة في كل من سوتشي وأستانا، أصبح من الواضح أن روسيا تطمح للتوصل إلى تسوية سياسية. ويبدو أن مغامراتها الخارجية قد آتت أكلها. لقد ساعدت تحركات الكرملين على ربط الاتصال مع جميع الأطراف المتصارعة في المنطقة، وأصبح صوت روسيا اليوم مسموعا داخل أروقة السلطة بدءا بطهران ومرورا بالقاهرة ووصولا إلى القصور في ممالك الخليج.

وعلى الرغم من أن الطريق إلى التسوية السياسية وإعادة الإعمار في مرحلة ما بعد الصراع سيكون طريقا وعرا، إلا أن هناك ثقة في أن إطار أستانا سيؤدي في النهاية إلى النتائج المرجوّة. وهكذا، شعر الكرملين بالحاجة إلى البدء في تقليص وجوده الإقليمي والحفاظ على مصالحه الرئيسية والتي تتمثل في "زيادة حجم المعاملات التجارية والحفاظ على رصيده السياسي الإقليمي" الذي يجب أن يكون جلياً لجميع الأطراف في المنطقة.

حتى قبل قرار ترامب بالانسحاب من سوريا، أصبح لدى موسكو رصيد سياسي كاف فتح المجال أمامها لتصبح الوسيط الرئيسي في المنطقة، وجعل منها شريكة الجميع. الآن، مع قيام واشنطن بإخراج نفسها من المعادلة، تخشى موسكو من احتمال عودة لاعبين كتنظيم الدولة أو النصرة إلى ساحة المعركة. يسعى الكرملين جاهدا هذه المرة لتأكيد نفسه كلاعب قوي، سواء في مجال الطاقة أو صادرات الأسلحة أو الزراعة، بالإضافة إلى قدرته على الحفاظ على الأمن.

في الوقت الذي كان فيه لاستراتيجية روسيا في سوريا العديد من الفوائد الملموسة، يبقى السؤال: إلى متى يستطيع الكرملين الحفاظ عليها؟ مع سعي ترامب إلى "إيقاف حروب التي لا نهاية لها"، قد يدفع هذا بالعديد من اللاعبين المحليين كطهران أو الرياض إلى التصرف حسب ما يخدم مصالحهم. الأمر الذي سيجعل موسكو طرفا في إحدى الصراعات الطائفية ولن يكون لدى بوتين خيار سوى الانحياز إلى أحد الأطراف، الأمر الذي يقوض فعليا دوره كوسيط.

مع تراجع شعبية بوتين إلى أدنى مستوياتها منذ 13 عاما وركود الاقتصاد الروسي، فإن وجود "كرملين قوي" اليوم في الشرق الأوسط يشبه ما حدث بداية عهد ميخائيل غورباتشوف، حيث كان الاقتصاد ضعيفا وطالبت الناس بالتغيير. كانت موسكو آنذاك مشغولة بتحقيق أهداف جيوسياسية عبر محاربة الأصوليين الإسلاميين في أفغانستان، في الوقت الذي كانت فيه الأمور الداخلية للبلاد في حالة من الفوضى، وكلنا نعلم كيف انتهى الأمر.