السبت 2018/08/04

الإندبندنت: “صفقة القرن” طور التبلور

بقلم: روبرت فيسك

المصدر: الإندبندنت

ترجمة: مركز الجسر للدراسات


قد لا يكون الإدراك المتأخر لشيء ما عادلا، لكنه يعطينا فكرة عن الحقيقة وما يدور خلف الستار. قام دونالد ترامب أولا بإعلان القدس عاصمة لإسرائيل، وبالتالي فقد حرم الفلسطينيين من عاصمتهم في شرق المدينة، الشيء الذي دفع بهم إلى الجزع. رد محمود عباس على الخطوة عبر القول بأنه سيقطع علاقاته مع الولايات المتحدة. أثار هذا التصريح حنق ترامب وصرح قائلا "نعطي الفلسطينيين مئات الملايين من الدولارات سنوياً ولا نحظى بالتقدير أو بالاحترام". لقد كانت مجرد تغريدة، لكنه عنى ما قاله. اعتبر ترامب الفلسطينيين جاحدين وناكرين للجميل فقام بمنع ما يقدر بـ ٣٠٠ مليون دولار أمريكي من المساعدات التي كانت تقدم للاجئين، لتقدم ٦٠ مليون دولار فقط للفلسطينيين.

اضطرت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)- التي تقوم بتوزيع مساعدات دولية على نحو ٥.٣ مليون لاجئ فلسطيني - إلى التخلص من موظفيها الأسبوع الماضي. ١١٣ منهم موجودون في غزة وحدها. ترعى الأونروا الفلسطينيين منذ عام ١٩٤٩، ولديها عجز حالي يبلغ ٤٩ مليون دولار. كما يواجه أطباء وممرضات ومعلمون وموظفون فلسطينيون آخرون يبلغ عددهم ٣٠ ألف شخص شبح البطالة. وبالتالي يهدد الجوع المزيد من الفلسطينيين داخل غزة في ظل الفقر والاكتظاظ السكاني داخل هذه المدينة. تم مؤخرا فصل أحد العاملين في منظمة الأونروا، وهو أب لستة أطفال بعد أن قضى ما يزيد عن ٣٢ سنة في العمل لصالحها.

مهلا! لكن يد العون ممدودة، أو لم يعد جاريد كوشنير، صهر ترامب والعقل المدبر "لصفقة القرن" بتحقيق السلام المستقبلي للفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء، كما وعدهم بحياة أفضل جنبا إلى جنب؟

لقد فعل ذلك بالفعل. فمنذ نحو شهر قال: "أعتقد أن الفلسطينيين لا يهتمون لحديث السياسيين أكثر من تطلعهم للفرص الجديدة التي يمكنهم الحصول عليها لهم وللأجيال القادمة كالحصول على المزيد من فرص الشغل ورفع الأجور والتطلع لحياة أفضل".

قد أشرت من قبل إلى أن هذا المال يقدم من أجل تحقيق السلام وليس مقابل الأرض. أما ما يحدث اليوم فهو منح للمال مقابل العاصمة الفلسطينية، مقابل المطالبة بإنهاء الاستعمار الإسرائيلي، و "حق العودة" إلى غير ذلك من المطالب. إن هذا ما يمكن أن يسميه ترامب حلا.

لكن النظر إلى تسلسل الأحداث يجعل هذه "الصفقة" تبدو أكثر تحيزا وظلما. فقد قام ترامب أولا بإعطاء القدس للإسرائيليين. ثم قام بعد ذلك، عندما اشتكى الفلسطينيون مما حدث، بقطع المساعدات الإنسانية عنهم من أجل الدفع بهم نحو اليأس. ثم، من باب المجاملة لصهره جاريد، عرض ترامب تقديم المساعدات المالية لهم في "الصفقة النهائية" إذا ما توقفوا عن المطالبة بهذه المطالب البغيضة وغير العقلانية والمعادية للسامية، والعنصرية، والتي تتمثل في إقامة دولة والعيش بكرامة ووضع حد للاستعمار.

قد تكون قلوبهم فارغة، لكن بطونهم ستكون مملوءة، كما يمكن أن تموت آمالهم لكنهم سيحققون ربحا ماليا. و"بدلاً من العنف والكره اللذين يحرّض عليهما زعماؤهم السياسيون الفاسدون، الذين يعجزون عن تأمين احتياجاتهم، يمكن للفلسطينيين أن يحصلوا على فرص جديدة ... فرص عمل أفضل وأجور أفضل لحياة أفضل".

في ظل وجود الكثير من الفرص، لن تكون هناك حاجة إلى الأونروا، أليس كذلك؟ لأنه لن يكون هناك لاجئون يعانون من الفقر إذ ستتغير أحوالهم مع كل تلك الوظائف و"الآفاق". وداعا غزة، وداعا لكل التهديدات التي تحيط بإسرائيل. وبما أن الخلاص المالي نفسه سيكون متاحا لفلسطينيي الضفة الغربية، فلماذا يهتم سكانها بحملة سرقة الأراضي الإسرائيلية التي تجتاح أراضيهم؟

من المستحيل حل هذه المعادلة. عندما اعترض الفلسطينيون على تحطيم أحلامهم السياسية، رفضوا "التحدث عن السلام" بالمفاهيم الأميركية والإسرائيلية، والتي من الممكن تكهنها دون أدنى جهد. وقال ترامب: "في ظل عدم رغبة الفلسطينيين بالحديث عن السلام، لماذا يجب علينا أن نقدم لهم هذه المساعدات المالية الضخمة؟".

يعتمد أكثر من نصف سكان غزة البالغ عددهم مليوني نسمة، والتي يصل معدل البطالة فيها إلى ٤٤٪، على منظمة الأونروا. بعبارة أخرى، يجب إطلاق اسم القضية الإنسانية على القضية الفلسطينية حسب قول أحد الموظفين العاملين بالمنظمة. ستصبح عندها قضية السلام مسألة اقتصادية وليست سياسية.

سيتم إشراك السعوديين والإماراتيين والمصريين في هذه الخطة الشرق أوسطية. ستكون هناك محطات كهرباء مدفوعة من قبل أبو ظبي، أسواق حرة مصرية في رفح، وأسهم سعودية في شركات فلسطينية؛ قد تكون هذه مجرد أحلام، ولكنهم يجدونها مناسبة لهم.

بشكل من الأشكال، يمكن ربط ما يحدث بأحلام دبي في الضفة الغربية، وإنشاء دولة شبيهة بسنغافورة في غزة، والتي اعتاد شمعون بيريز على تبني رؤيتها، والتي أعاد اقتراحها جون كيري الذي اقترح "خطة اقتصادية لفلسطين" تبلغ تكلفتها ٤ مليار دولار خلال المنتدى الاقتصادي العالمي قبل أكثر من خمس سنوات، أخبر كيري عباس آنذاك بأنه "يجب" إعادة بدء المفاوضات مع إسرائيل، وعرض عليه "خطة لتطوير اقتصاد فلسطيني مستدام وقوي في القطاع الخاص ... اعتبرت هذه الخطة الأكبر والأكثر طموحا منذ معاهدة أوسلو التي جرت منذ أكثر من 20 عاما. عرض كيري حينها على عباس دولة فلسطينية مقابل تعاونه وامتثاله.

ومع ذلك، لا تقدم "صفقة القرن" التي يقترحها ترامب اليوم شيئا "جديدا" باستثناء الاستمرار في إنشاء "مستوطنات" يهودية جديدة على الأراضي الفلسطينية. لكنني أفترض أنه إن لم يكن هناك فقر وجوع وكانت هناك وظائف و"آفاق" أفضل للأجيال الفلسطينية القادمة، دون اضطرار الأونروا للقيام بذلك، سيكون الفلسطينيون قادرين على تقدير الحالة السيئة التي يعيشونها داخل حدود دولة خاصة بهم ودون وجود مستعمرات يهودية على الأراضي الفلسطينية المحتلة.