الأحد 2020/03/08

لماذا كان يجب على واشنطن إحباط الاعتراف بالاتفاق الروسي التركي حول إدلب؟

الملخّص التنفيذي: منذ تدخّلها العسكري المباشر في سوريا، أواخر عام 2015، دأبت روسيا على محاولة استثمار مكاسبها العسكرية، في فرض معادلة سياسية جديدة بعيداً عن قرارات الأمم المتحدة، وخطّت لذلك مساراً سياسياً في أستانا يوازي مسار جنيف الأممي، لكن مساعيها هذه لا تزال تبوء بالفشل إلى يومنا هذا.

هذا البحث يشرح المحطات الرئيسية التي مرّت بها هذه المحاولات الروسية، وصولاً إلى الاتفاق الروسي التركي في موسكو 5 آذار/مارس 2020.

المرحلة الأولى: رحلة البحث عن دور سياسي مع المعارضة السورية، في النصف الأول من عام 2015:

منذ بداية الثورة على نظام الأسد، انحازت روسيا إلى جانب النظام، فيما ذهبت معظم الدول العربية والغربية إلى تشكيل مجموعة أصدقاء الشعب السوري، واعترفت بالمعارضة السياسية، المجلس الوطني أولاً، ثم الائتلاف الوطني، وكانت داعمة لها في مفاوضات جنيف 2 عام 2014، وهذا ما خوّلها أن تكون الممثل للمعارضة في المحافل التي تكون فيها روسيا ممثلة للنظام، وبالطبع هذا الأمر لم يكن يروق لروسيا التي أرادت أن يكون لها أيضاً معارضة سوريّة مقرّبة منها فسعت إلى عقد اجتماعات لها في موسكو 1 وموسكو 2 وفي أستانا في النصف الأول من عام 2015، لكن النتائج كانت هزيلة للغاية وسط مقاطعة الكثير من الشخصيات والكيانات لهذه الاجتماعات، ورضيت موسكو في النهاية أن يكون لها منصة "ضعيفة" باسمها، وستعمل على إقحامها لاحقاً في القرار 2254، وفي هيئة التفاوض، وفي مسار جنيف، وفي اللجنة الدستورية.

المرحلة الثانية: التدخّل العسكري الروسي، في النصف الثاني من عام 2015:

بعد شهر واحد من التدخّل الروسي العسكري العنيف في 30/9/2015 لحماية نظام الأسد الذي كان يوشك على السقوط، تمّت الدعوة إلى عقد مؤتمر فيينا 1 في 30/10/2015، ثم بعده بأسبوعين مؤتمر فيينا 2، واستطاعت روسيا إدخال إيران كلاعب سياسي في مجموعة العمل الدولية لدعم سوريا ISSG بعد أن كانت قد أبعدت عن مفاوضات جنيف 2 عام 2014.

عملت روسيا بعد مؤتمري فيينا على التخلّص من المعارضة التي رفضت الاستجابة لحضور اجتماعات موسكو وأستانا، فكان أن تمّ إنشاء هيئة المفاوضات العليا كبديل عن الائتلاف، وصدر القرار 2254 الذي أدخل منصتي القاهرة وموسكو إلى جانب هيئة المفاوضات مع فتح الباب لضمّ معارضة أخرى كما صرح بذلك وزير الخارجية الروسي لافروف في جلسة مجلس الأمن للتصويت على القرار 2254، أنّ العملية التفاوضية القادمة ستتمّ "بالاستناد إلى نتائج الاجتماعات مع المعارضة السورية، بما فيها تلك الجاري عقدها في موسكو والقاهرة والرياض ودمشق والحسكة وأماكن أخرى".

الأمر الثاني الذي عملت روسيا على تحقيقه هو إحداث تغيير في بنية الحل السياسي القائم على بيان جنيف، والقرار 2118، بإدخال بياني فيينا إلى القرار 2254، وإدخال بعض الألفاظ الملتبسة على قضايا هيئة الحكم الانتقالي، والدستور والانتخابات.

لكن ومع انطلاق جولة جنيف 3 مطلع عام 2016 تبيّن للروس فشلهم الذريع في مساعيهم في إحداث تغيير في المعادلة السياسية، وتبيّن الدور الضعيف للمجموعات التي دفعت بها للمشاركة في المفاوضات التي ستتوقف إلى ما بعد سقوط حلب بيد الروس نهاية عام 2016.

لعلّ أهمّ مكسب حصلت عليه روسيا في هذه المرحلة هو تسميتها في مؤتمر ميونيخ 11/2/2016 إلى جانب الولايات المتحدة كرئيسين مشتركين لمجموعة العمل الدولية، ومجموعة العمل المنبثقة عنها لوضع صيغة لوقف إطلاق النار.

بدأ يتضّح هنا سعي الولايات المتحدة نحو كبح جماح التدخّل العسكري الروسي، وتجريد روسيا من استثمار المكاسب العسكرية التي كانت تحققها على الأرض في المفاوضات السياسية، ولذا صدر في 22/2/2016 أول "بيان مشترك من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحادية بصفتهما الرئيسين المشاركين للمجموعة الدولية لدعم سوريا، حول الهدنة - أو وقف الأعمال العدائية - في سوريا"، وأصدر مجلس الأمن القرار 2268 تاريخ 26/2/2016 الذي يرحب ويؤيد هذين الاتفاقين، ثمّ جرى إطلاق عمل "مجموعة التنفيذ المشتركة" (JIG)، التي أصدرت وثيقة " الشروط المرجعية لمجموعة التنفيذ المشتركة" بهدف التوصّل لاتفاق وقف إطلاق نار يبدأ السريان بتاريخ 31/7/2016، وهو الأمر الذي لم تلتزم به روسيا، ثم اتفاق آخر يعرف باتفاق "الكاستيلو" الطريق المعروفة في حلب، والذي كان مقرراً أن يدخل حيّز التنفيذ في 12/9/ 2016. ولم يطبّق أيضاً، ليتوقّف العمل بهذه المجموعة لاحقاً بشكل نهائي.

عاودت الولايات المتحدة في محاولة لعرقلة المساعي العسكرية الروسية في اجتياح شرق حلب، والتسبب بأزمة إنسانية هائلة، إلى استصدار قرار بوقف إطلاق نار في 5/12/2016 لكن القرار لاقى فيتو روسياً صينياً مزدوجاً، ثم نجحت الولايات المتحدة في تمرير القرار 2328 في 19/12/2016 الذي يقضي بإرسال مراقبين دوليين إلى حلب، لكنّ موسكو عاجلت في اليوم التالي تماماً 20/12/2016إلى دعوة تركيا وإيران إلى موسكو، وأصدرت إعلان موسكو الذي وصفه وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، أنه "يرقى إلى خارطة طريق لإنهاء الأزمة السورية".

روسيا هنا فكّت الارتباط بالولايات المتحدة وبمجموعة العمل الدولية لدعم سوريا، وبمجموعة التنفيذ المشترك، وتؤسس مساراً سياسياً جديداً في أستانا، باعتبار أنها يئست من تحقيق أي مكسب سياسي حقيقي لطالما بقيت في شراكة مع الولايات المتحدة، أو عبر استصدار قرار لصالحها في مجلس الأمن، ومرة أخرى ظهر أن الولايات المتحدة تُفشل جميع محاولات موسكو في استثمار تدخّلها العسكري سياسياً.

بعد عشرة أيام فقط في 30/12/2016 دخل اتفاق "نظام وقف الأعمال القتالية" حيّز التنفيذ ، كان قد وقّع عليه معظم "قادة فصائل المعارضة المسلّحة السورية". وذهبت به روسيا إلى مجلس الأمن مكررة وقائع القرار 2268 السابق الذكر، ولتحصل على القرار 2336 بتاريخ 31/12/2016 حيث رحّب في مجلس الأمن بهذا الاتفاق.

هذا هو الخطأ الوحيد الذي ارتكبته الولايات المتحدة في إفشال محاولات روسيا في الحصول على مكسب سياسي لأعمالها العسكرية، القبول بنقل الاتفاق إلى مجلس الأمن وصدور قرار يؤيّده، فالأمر هنا يختلف تماماً عن القرار 2268 حيث كان يمثّل مجموعة العمل الدولية بكاملها، باعتبار الطرفين الموقّعين عليه هما الرئيسان المشتركان لهذه المجموعة، أما القرار 2336 فهو يشير إلى اتفاق ثنائي بين دولتين فقط، ومع وجود إيران في هذا المسار فقد صارت الكفّة راجحة لصالح روسيا وإيران اللتين تدعمان النظام، على حساب تركيا التي تدعم المعارضة.

بالسماح بتمرير هذا القرار فتحت الولايات المتحدة الطريق لنشوء مسار موازٍ لمسار جنيف الأممي، الذي واجه شللاً تامّا في جولاته اللاحقة إذ اعتبرته روسيا مساراً منافساً لأستانا الذي تهيمن عليه تماماً، فيما هي لا تستطيع التأثير على مسار جنيف، وخاصة بعد ظهور هيئة التفاوض الثانية، التي رغم إقحام روسيا لبعض المعارضة المقربة منها بشكل أكبر، إلا أن الهيئة بقيت على نفس المواقف تقريباً التي كانت عليها الهيئة الأولى.

في أستانا 4 تم الاتفاق على مناطق خفض التصعيد الأربع، وقدّمت روسيا مشروع قرار تضمّن ثلاثة بنود تقول فيها، إن مجلس الأمن:

  1. يرحب بالمذكرة المتعلقة بإنشاء مناطق لتخفيف حدة التصعيد في الجمهورية العربية السورية، الموقعة في أستانا في 4 أيار / مايو 2017 (المرفق).
  2. يدعو جميع أطراف النزاع في سوريا إلى التنفيذ الكامل لوقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في 29 كانون الأول / ديسمبر 2016، والتقيد بأحكام المذكرة المتعلقة بإنشاء مناطق لوقف التصعيد في الجمهورية العربية السورية.
  3. تطلب إلى جميع الدول الأعضاء أن تساهم بحسن نية في تنفيذ المذكرة المتعلقة بإنشاء مناطق لتخفيف حدة التصعيد في الجمهورية العربية السورية.

بالطبع لم تكرر الولايات المتحدة خطأ القرار 2336، ومنعت تقديم هذا القرار في مجلس الأمن، وكانت محقّة في ذلك بلا شك، فروسيا لم تحترم قطُّ اتفاق مناطق خفض التصعيد، واجتاحتها الواحدة تلو الأخرى، من ريف حمص الشمالي، إلى درعا، إلى الغوطة الشرقية، وهجّرت مقاتلين ومدنيين منها إلى إدلب آخر مناطق خفض التصعيد.

الآن روسيا تهاجم إدلب في خرق فاضح لمذكرة سوتشي 17/9/2018 التي نصّت على " الإبقاء على منطقة خفض التصعيد في إدلب، وتحصين نقاط المراقبة التركية واستمرار عملها"، وبسبب ردّ الفعل التركي على هذا الخرق بإرسال أعداد ضخمة من القوات التركية إلى إدلب، ودخولها في معركة مباشرة مع قوات نظام الأسد، دعا الرئيس الروسي بوتين الرئيس التركي أردوغان إلى اجتماع في موسكو في 5/3/2020 تم فيه التوقيع على بروتوكول يتضمّن وقف جميع الأعمال العسكرية على طول خط التماس في منطقة التصعيد بإدلب بدءاً من الساعة 00:01 بتاريخ 6 مارس 2020.

سيتم إنشاء ممر أمني بعمق 6 كم من الشمال و 6 كم من الجنوب على جانبي الطريق السريع M4. وسيتم الاتفاق على معايير محددة لعمل الممر الأمني بين وزارتي الدفاع بالجمهورية التركية والاتحاد الروسي في غضون 7 أيام.

في 15 مارس آذار 2020 ، ستبدأ الدوريات التركية الروسية المشتركة على طول الطريق السريع M4 من موقع ترومبا (2 كم إلى الغرب من سراقب) إلى موقع عين الحافر.

طلبت روسيا عقد جلسة مغلقة في مجلس الأمن وطالبته بتأييد هذا الاتفاق، على غرار طلبها تأييد اتفاق مناطق خفض التصعيد الأربع كلها سابقاً، لكن الولايات المتحدة، وللمرة الثانية أحبطت هذا المسعى الروسي، وصوّتت ضد الطلب الروسي. معتبرة أنه من السابق لأوانه الترحيب بهذا الاتفاق ريثما تظهر نتائجه على الأرض، وقد ظهرت كما هو متوقّع ونقضت روسيا الاتفاق جملة وتفصيلا.

ما الذي يجب فعله؟

الخروج عن المسار الذي وضعه مجلس الأمن حدث في أكثر من موضع، لكن الموضع الأول كان مؤتمر فيينا الذي كان صدى للتدخّل العسكري الروسي، ومحاولة لاحتوائه، لكن ثبت فشل كل ما كان بعده، من تشكيل مجموعة العمل الدولية وإدخال إيران فيها، إلى تسمية روسيا رئيسا مشتركاً لها بموازاة الولايات المتحدة، إلى إنشاء مجموعة العمل المشتركة التي كان يمكن أن ترسل الأمم المتحدة قوات تابعة لها تقوم بمراقبة اتفاقات وقف إطلاق نار يعمل مجلس الأمن على فرضها حسب الصلاحيات الممنوحة له، إلى القبول بجلب نتائج مسار أستانا الروسي إلى الأمم المتحدة، وإصدار قرار يعترف به، إلى القبول بمشاركة المبعوث الخاص في جولات أستانا مع أنها نشأت كبديل عن مسار جنيف الأممي الذي يخضع لقرارات مجلس الأمن.

من الصعب القول اليوم بوجوب العودة إلى ما قبل القرار 2254، لكن على الأقل يجب العودة إليه، ووضع مفهومه في سياق مفهوم بيان جنيف في ترتيب عملية الانتقال السياسي بحيث تبدأ من تشكيل هيئة الحكم الانتقالي التي تقود هي العملية الانتقالية وتهيئ البيئة الآمنة والمحايدة لصياغة دستور جديد للبلاد، تجري على أساسه الانتخابات البرلمانية والرئاسية.