الأربعاء 2019/07/10

لماذا تريد “قسد” تحويل شمال شرق سوريا إلى “غوانتانامو أوروبي”؟

سبعة عشر عاماً مضت على تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية معتقل غوانتانامو على الأراضي الكوبية لمحاكمة المتهمين بالإرهاب من تنظيمي "القاعدة" و"طالبان"، الذين قبضت عليهم القوات الأمريكية في حربها التي شنتها على أفغانستان عقب أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001، وكانت الغاية من اختيار غوانتانامو هو حرمان هؤلاء المعتقلين المصنّفين حسب المشرّعين الأميركيين أنهم "مقاتلون أعداء" من المحاكمة استناداً للتشريعات والقوانين التي يخضع لها الأميركيون.

صدق البيت الأبيض عام 2002 على مذكرة تخوّل السلطات الأمريكية عدم تطبيق معايير اتفاقيات جنيف على الصراع مع تنظيم القاعدة، ما عُدّ غطاء قانونياً لوكالة الاستخبارات الأميركية، لممارسة أقسى أنواع التعذيب والانتهاكات الإنسانية بحق المعتقلين الذين بلغ عددهم ما يقارب 800 معتقل.

ما يحدث اليوم شمال شرق سوريا يشبه كثيراً ما حدث في أفغانستان سابقاً، فبعد إعلان التحالف الدولي القضاء على آخر معاقل تنظيم الدولة في بلدة الباغوز السورية القريبة من مدينة البوكمال على الحدود العراقية، أعلنت كذلك المليشيات الكردية PYD التي شاركت قوات التحالف تلك المعارك هناك، أنها قبضت على عدد قريب من عدد معتقلي غوانتانامو، وطلبت من الدول التي ينتمي إليها هؤلاء المعتقلون تسلّم رعاياها تمهيداً لمحاكمتهم، كلٌّ في بلده الأصلي، لكن وبنفس التبرير الأمريكي صدرت  تصريحات من معظم العواصم الأوروبية برفض استلام المعتقلين في سجون المليشيات الكردية لمحاكمتهم أمام المحاكم الأوروبية، معلّلين ذلك أنّ القوانين والأحكام الأوروبية في قضايا الإرهاب ضعيفة، ولذا ظهر إجماع أوروبي على الدعوة لإنشاء محكمة دولية خاصة بهم، و"أنه من المستحسن إنشاء هذه المحكمة في مكان ما في الشرق الأوسط، لأن من شأن ذلك تسهيل النظر في القضايا وإصدار الأحكام" حسب ما جاء عن وزير الداخلية السويدي ميكائيل دامبرغ ، الذي أضاف أنّ "أي آلية إقليمية ستكون أقرب إلى الأدلة والشهود، وهو ما سيؤدي إلى زيادة عدد الإدانات" وأيده في ذلك زعيم حزب "فلامس بلانغ" البلجيكي فيليب ديونتر الذي قال "إن الحل الأمثل هو محاكم في الأماكن التي ارتكبت فيها الجرائم من طرف تنظيم «داعش»، أي في سوريا والعراق".

المشكلة التي تواجه الأوربيين هي الانقسام الحاصل بينهم بعد إصدار محاكم عراقية أحكاماً بالإعدام لمواطنين فرنسيين تسلمتهم السلطات العراقية من المليشيات الكردية المعروفة باسم "قوات سوريا الديمفراطية"، فمع أن بعض السياسيين الأوربيين مثل البلجيكي ديونتر، لا يعارضون أحكام الإعدام هذه، إلا أن فرنسا تواجه حرجا شديدا في تنفيذ أحكام الإعدام بضغط من منظمات حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني، ما دفع وزيرة العدل الفرنسية نيكول بيلوبيه، للتصريح بوجود مناقشات بين وزراء الداخلية والعدل في بلدان أوروبية عديدة حول مشروع  "تشكيل محكمة دولية في العراق لمقاضاة العناصر الأجانب في تنظيم الدولة، وأنّ "المحكمة ليست سوى فرضية عمل، وأنها ستنشأ في المكان المعني، ليس في سوريا على الأرجح، ربما في العراق". وأنه "في حال شكلت المحكمة يمكنها العمل بمشاركة قضاة أوروبيين وفرنسيين وعراقيين"، لكن مع عدم قدرة الأوربيين على فرض حظر على عقوبة الإعدام التي يسمح بها الدستور العراقي، فإنها ستذهب بإنشاء هذه المحكمة في منطقة شمال شرق سوريا حيث تسيطر قسد على الأرض هناك، وتقيم فيها ما تطلق عليه "إدارة ذاتية".

تصريحات قادة قسد تدل على رغبتهم في إنشاء هذه المحكمة في مناطق سيطرتهم شمال شرق سوريا، ففي المؤتمر الصحفي الذي شاركت فيه الأحزاب الكردية المنتشرة في المنطقة والتي تسميها المليشيات الكردية بمنطقة "روج آفا" أعلنت هذه الأحزاب على لسان نائب سكرتير "حزب الوحدة الديمقراطية" الكردي في سوريا "يكيتي" مصطفى مشايخ ما قال فيه "نرفض أي نوع من أنواع المحاكمات لمرتزقة داعش ممن هم في سوريا خارج الأراضي السورية، ونوّد ونطالب أن تكون المحاكم برعاية دولية ضمن مناطق شمال وشرق سوريا، نظراً لارتكابهم جرائم حرب وإرهاب ضمن هذه الأراضي، وسنستمر في مناقشة هذا الأمر داخلياً حتى الوصول لصيغة محددة لهذا الموضوع".

لماذا تريد قسد إنشاء المحكمة الدولية شمال شرق سوريا

أولاً وقبل كل شيء فإن قسد الباحثة عن شرعية دولية "لإدارتها الذاتية" بشكل شبيه بإقليم كردستان شمال العراق، ستجد في هذه المحكمة فرصة كبيرة للاعتراف بها كحكومة محلية تتمتع بصفة قانونية تتيح لها محاكمة عناصر التنظيم، ويعترف المجتمع الدولي بالأحكام الصادرة عن محاكمها، وهو ما يؤهلها أيضاً لمحاكمة خصومها من السكان المحليين وخصوصا العرب الرافضين لحكمها، وتوجيه تهم الإرهاب لهم، ما يعزز سيطرتها على المنطقة.

ثانياً: سيترافق إنشاء المحكمة مع دخول الكثير من القضاة الدوليين والمحامين ووسائل الإعلام وممثلي منظمات حقوق الإنسان وأقرباء وعوائل المعتقلين، واحتياج كل ذلك لتعزيز الوجود الأمني لقوات التحالف لتأمين حماية عمليات المحاكمات هذه، الأمر الذي سيعزز هو الآخر قوة وشرعية ميلشيات قسد.

ثالثاً: طلب العراق مقابل محاكمة معتقلي التنظيم على أراضيه مبلغ ملياري دولار، وحال حصول قسد على هذا المبلغ فذلك يعني دعماً هائلاً لم تكن تحلم به لإعادة إعمار المنطقة وترميم البنى التحتية والاقتصاد المنهار هناك، ما سيكون عاملا مساعداً لكسب ولاء السكان المحليين مقابل تقديم الخدمات لهم.

هل يمكن أن ينجح هذا المشروع؟

نعم، فالدول الأوربية تستطيع هنا تفادي كل الاعتراضات والضغوط عليها في قضية محاكمة رعاياها في العراق، فالدستور الذي أعلنت عنه قسد قبل أكثر من عام باسم "العقد الاجتماعي للفيدرالية الديمقراطية لروج آفا شمال –سوريا (لمناطق شمال سوريا) ينص في باب الحقوق والحريات العامة، المادة 20 على أنّ "حق الحياة حق أساسي ومصان بهذا العقد وبموجبه تلغى عقوبة الإعدام"، كما ينص في المادة 21 على أنه "لا يجوز تعذيب أحد نفسياً أو جسدياً ويعاقب فاعلها". ستكون هذه النصوص كافية برأي الحكومات الأوروبية لاعتبار المحاكمات التي تجري أنها محاكمات عادلة ونزيهة وتلتزم بمعايير حقوق الإنسان.