السبت 2019/06/01

تذكرة عودة إلى “أستانا صفر”!

نقطة صفر النظام التي يتمنى العودة إليها هي ما قبل درعا 2011، هذا لن يحدث، بعيداً عن تأثير العوامل الخارجية، ملايين السوريين يمثّلون أكثر من نصف الشعب، يرفضون العودة إلى تلك النقطة.

يوجد نقطة صفر ثانية حدثت في السنوات الثماني الماضية، وهي ما يجب مرحليا على المعارضة العودة إليها، كان سقوط مدينة حلب علامة فارقة، ومنعطفاً خطيراً نتج عنه سلسلة أحداث متتالية سياسية وعسكرية، تسبّبت في انهيارات كبرى على هذين الصعيدين، ستعمل هذه الدراسة على عرضها عبر محطات في سبيل وضع الخطط اللازمة للتراجع عنها واحدة تلو الأخرى، أو دفعة واحدة، في عملية أشبه بتدوير عقارب الساعة إلى الوراء للوصول إلى نقطة البداية التي وقعت بعدها هذه الانتكاسة.

المحطة الأولى: 20/12/2016 "أستانا صفر"

"أستانا صفر"، الذي انعقد في موسكو بحضور وزراء خارجية روسيا وتركيا وإيران، لا يظهر بشكل واضح في مسار أستانا، الذي درجت الوثائق على الإحالة فيه إلى أستانا واحد عند الإشارة إلى بدء هذا المسار، ميزة "أستانا صفر" أنه يُوصِل إلى استنتاج مفاده أن مسار أستانا كان يجري الإعداد له بينما العمليات القتالية في حلب كانت لا تزال في أوجها، لم تكن آخر قافلة مسلحين أو مدنيين قد غادرت المدينة بعد، قد يكون سقوط حلب فعليا قد تم بعد يومين من بيان موسكو 20/12/2016 الذي نصّ في الفقرة الثالثة منه على أن الدول الثلاث التي ستكون ضامنة لمسار أستانا "إيران وروسيا وتركيا ترحب بالجهود المشتركة في شرق حلب، والتي من شأنها أن تسمح بإجراء إجلاء طوعي للمدنيين وإخراج مسلحي المعارضة من هناك".

إذن البيان يشير بوضوح إلى أن عمليات الإجلاء كانت لا تزال قائمة. ونصَّ في الفقرة السابعة على أنه "ينظر الوزراء الثلاثة باهتمام إلى دعوة رئيس كازاخستان لإجراء لقاءات حول مستقبل سوريا في أستانا".

المحطة الثانية: 29/12/2016 توقيع الفصائل المهزومة في حلب على اتفاق تشكيل وفد منها لمفاوضات أستانا

تسعة أيام فقط فصلت بين سقوط حلب وبين توقيع الفصائل المهزومة هناك على اتفاق لتشكيل وفد منها لمفاوضات أستانا التي أعلن عنها قبل سقوط حلب كما سبق.

وقّع في أنقرة بتاريخ 29/12/2016 قادة اثني عشر فصيلاً هم: فيلق الشام، فرقة السلطان مراد، صقور الشام، الجبهة الشامية، جيش العزة، الفرقة الساحلية الأولى، لواء شهداء الإسلام، جبهة أهل الشام، جيش إدلب الحر، فيلق الرحمن، تجمع فاستقم، جيش النصر، جيش الإسلام، مفوِّضين "تفويضاً كاملاً" أسامة إبراهيم معترماوي (أسامة أبو زيد)، ومنذر سراس بالتوقيع عنهم "على اتفاقية حول تشكيل الوفد لبداية المفاوضات الخاصة بالحل السياسي الهادف إلى حل شامل للأزمة السورية عن طريق سلمي".

تعهّدت الفصائل الموقعة على الاتفاق بالانضمام إلى اتفاق وقف الأعمال القتالية الذي سيبدأ سريانه في اليوم التالي 30/12/2016، وعلى تسمية وفدها لمفاوضات أستانا لغاية 16/1/2017، وعلى العمل المشترك مع وفد النظام في أستانا التي ستعقد أول جولاتها في 23/1/2017 بغاية "إعداد خارطة طريق من أجل حل الأزمة السورية في أقصر وقت ممكن".

المحطة الثالثة: 31/12/2016 قرار مجلس الأمن 2336

حرصت روسيا على تحصيل شرعية وإجماع دولي على المسار التفاوضي الذي تنوي إنشاءه في أستانا، ويبدو أن طموحها كان الوصول بهذا المسار ليكون بديلاً عن مسار جنيف، فأودعت في نفس يوم توقيع اتفاق الفصائل السابق خمس رسائل في الأمم المتحدة ومجلس الأمن موجهة إلى الأمين العام، ورئيس مجلس الأمن، وطلبت تعميمها على أعضاء مجلس الأمن، واعتبارها وثيقة رسمية من وثائقه، وضمّنتها خمس مرفقات:

المرفق الأول: بيان يتعلّق بإرساء نظام وقف إطلاق النار في "الجمهورية العربية السورية".

يتضمّن اقتراح "الاتحاد الروسي إرساء نظام لوقف إطلاق النار في جميع أنحاء سوريا (باستثناء مناطق العمليات القتالية ضد الجماعتين الإرهابيتين تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، وجبهة النصرة) اعتباراً من الساعة الصفر من يوم 30كانون الأول/ديسمبر 2016 بتوقيت دمشق".

المرفق الثاني: بيان من وزارة الخارجية لجمهورية تركيا.

يتضمّن تعهّد تركيا "في ضمان دخول وقف إطلاق النار على صعيد البلد برمّته حيّز النفاذ اعتباراً من يوم غد.

المرفق الثالث: اتفاق بشأن آلية تسجيل انتهاكات نظام وقف إطلاق النار الذي أعلن عنه في سوريا، ويدخل حيّز النفاذ في 30 كانون الأول/ديسمبر 2016، وبشأن نظام تطبيق الجزاءات على المنتهكين. يتضمّن إعلان "الاتحاد الروسي وجمهورية تركيا باعتبارهما الدولتين الضامنتين (كل في الجزء المعيّن له) لوقف إطلاق النار في سوريا الذي سيدخل حيز النفاذ في كانون الأول/ديسمبر 2016، وبشأن نظام تطبيق الجزاءات على المنتهكين.

كما يتضمّن الاتفاق على تشكيل:

اللجنة المشتركة: للنظر في جميع الشكاوى والقضايا المتعلقة بانتهاكات وقف إطلاق النار.

نقاط التفتيش: تقيمها الدولتان الضامنتان "في المناطق السكنية على مقربة من خط التماس الفعلي بين الأطراف".

فرض الجزاءات على الأطراف التي ترتكب الانتهاكات: يتيح للدولتين الضامنتين تطبيق "تدابير زجرية في حق الطرف الذي ارتكب الانتهاكات" إذا لم يستجب لدعوات وقف الانتهاكات ودفع التعويض عن الأضرار للطرف المتضرر.

حُرّر في أنقرة في 29كانون الأول/ديسمبر 2016 في ثلاث نسخ متساوية في الحجة القانونية، واحدة باللغة الروسية، وأخرى بالتركية وأخرى بالعربية.

المرفق الرابع: اتفاق يتعلّق بتشكيل الوفدين لبدء المفاوضات بشأن تسوية سياسية تهدف إلى إيجاد حل شامل في سوريا بالوسائل السلمية. يتضمن التزام نظام الأسد "بتشكيل وفد قبل 31 كانون الأول/ديسمبر 2016 للدخول في مفاوضات بشأن تسوية سياسية.

حُرّر في دمشق دون تحديد تاريخه بدقة.

المرفق الخامس: اتفاق يتعلّق بتشكيل الوفدين لبدء المفاوضات بشأن تسوية سياسية تهدف إلى إيجاد حل شامل في سوريا بالوسائل السلمية. يتضمن التزام قادة جماعات المعارضة المسلحة بتشكيل وفدهم لمفاوضات أستانا.

حُرّر في أنقرة بتاريخ 29/12/2016

في اليوم التالي ذهبت روسيا إلى مجلس الأمن واستصدرت القرار رقم 2336 بتاريخ 31/12/2016، الذي رحّب بجهود روسيا وتركيا، وأحاط علماً بالوثائق الخمس السابقة، وتطلّع إلى الاجتماع المقرر عقده في أستانا.

المحطة الرابعة: 23/1/2017 أستانا 1، الدستور الروسي، وردّ النظام على الفصائل.

بدأ مسار أستانا أسوأ بداية كان يمكن أن يتوقعها وفد الفصائل، لكن الغريب في الأمر والذي يحتاج إلى مراجعة ومساءلة حقيقية هو قبول الفصائل بالاستمرار في هذا المسار بعد ما جرى في جولته الأولى التي أظهرت بوضوح تام أهداف روسيا والنظام منه، إضافة لتثبيت إيران كطرف ثالث ضامن إلى جانب روسيا وتركيا، رغم أن المرفقات السابقة للقرار 2336 جميعها لم تكن قد أشارت إلى اعتبار إيران دولة ضامنة في المفاوضات المزمع عقدها.

رد النظام على مقترح وقف إطلاق النار الذي قدّمته الفصائل:

سلّم الجعفري ورقة للمؤتمر تحت عنوان: "نبيّن فيما يلي نتيجة الدراسة حول المقترح المقدَّم من قبل المجموعات الإرهابية المسلحة (سلّمها الإرهابي "محمد علّوش" إلى الوفد العسكري الروسي خلال اجتماع أستانا) والمرفق ربطاً صورة عنها".

الأمر الأول في الرد أن النظام يرفض توقيع أي اتفاق مع ما سمّاه "المجموعات الإرهابية" ويطلب أن يكون التوقيع مقتصراً على النظام وروسيا باعتبارها الضامن الرئيسي.

والأمر الثاني المفهوم أيضاً هنا أن النظام يرفض الدور التركي كضامن لهذا المسار، وهو ما سيكرره النظام لاحقاً على الدوام في رفض الاعتراف بالاتفاقيات التي تبرمها روسيا مع تركيا، وخصوصاً في نشر القوات التركية في نقاط المراقبة على حدود منطقة خفض التصعيد شمال غرب البلاد، واعتبار هذه القوات بمثابة قوات محتلة.

رفض النظام في ردّه هذا رفع الحصار عن المناطق المحاصرة وتسهيل حركة دخول وخروج المدنيين فيها، ورفض وقف القصف بالبراميل المتفجرة، ورفض وقف التجنيد الإجباري، ورفض جميع الفقرات التي تشير إلى وقوع انتهاكات من طرفه من قبيل عمليات التعذيب والاعتقال، وتعطيل مصادر الماء والغذاء أو العبث بها، أو تلويثها، ورفض اتهامات التهجير القسري، والتغيير الديموغرافي، ورفض إخراج المليشيات الأجنبية المستقدَمة من طرفه واعتبر وجودها شرعياً، ورفض تشكيل لجان مراقبة دولية لوقف إطلاق النار، أشياء أخرى كثيرة، ومع ذلك وافقت الفصائل في مفارقة يصعب تفسيرها إلى اليوم.

الدستور الروسي، وتشكيل اللجنة الدستورية:

سلّم الروس للوفد العسكري ورقتين أخريين: الأولى سمّوها: "مشروع دستور الجمهورية السورية" والثانية: "بيان عن اللجنة الدستورية المختصة بوضع الدستور السوري".

يضمن مشروع الدستور الروسي لبشار الأسد الترشح في انتخابات 2021، ويضمن له الترشح لفترة رئاسية تالية عام 2028، أي يضمن له البقاء في الحكم إلى عام 2035، الفقرة التي طالب النظام بتعديلها تتيح للأسد الترشح مرة ثانية ليصل إلى عام 2042، وحافظت الورقة الروسية على معظم صلاحيات الرئيس الحالية التي تعتبر البوابة الأوسع لتكريس نظام الاستبداد الذي يطالب الشعب بتغييره.

اللجنة الدستورية تستبعد وفق تشكيلها جميع أعضاء المعارضة تقريباُ، وتقترح أن تكون من 24 عضواً يجري تسميتهم من قبل الدول الثلاث الضامنة، كما يكون لهذه الدول أعضاء من رعاياها في اللجنة بوصفهم خبراء.

المحطة الخامسة: 3/5/2017 أستانا 4..  إنشاء مناطق خفض التصعيد:

كانت جولة "أستانا 4" الأكثر صخباً من بين الجولات الأخرى حين تم الإعلان عن اتفاق مناطق خفض التصعيد الأربع، على خلاف العادة أبدى نظام الأسد ارتياحه وترحيبه والتزامه بهذا الاتفاق، ورحّب بالاتفاق معه الأمم المتحدة ومعظم دول العالم، فيما رفض الوفد العسكري الاتفاق "بشدة" وقال إنهم ليسوا طرفاً باتفاق مناطق "تخفيف التوتر"، معتبراً الاتفاق مدخلاً "إلى تقسيم سوريا، وخلق أوضاع على الأرض غير قابلة للتغيير".

بالطبع ظهر لاحقاً أن هذا الاتفاق كان فقط لقضم هذه المناطق واحدة تلو الأخرى، وإعادة احتلالها من طرف النظام، وهي اليوم سقطت ثلاثة منها بيده فيما المعارك مستعرة على المنطقة الرابعة والأخيرة في محيط إدلب، لكن المفارقة هنا أيضاً أنه بعد فترة قصيرة تحوّل العديد من الفصائل والمناطق الرافضة لهذا الاتفاق إلى مطالب بإدخاله فيها، حدث ذلك في القابون والوعر والقلمون وغيرها، ويتحدث مركز المصالحة على موقع وزارة الدفاع الروسية عن انضمام 2518 قرية ومدينة إلى نظام وقف الأعمال القتالية، وعن قبول 234 فصيلاً عسكرياً بتنفيذ شروط وقف الأعمال القتالية.

كان المفترض بعد أول خرق للروس والنظام لاتفاق خفض التصعيد أن تتشدد الفصائل في مواقفها الرافضة له، لا أن يحدث العكس، وأن تلجأ الفصائل للمطالبة بتطبيقه واعتبار مناطقها مشمولة به، في محاولة منها لوقف العدوان عليها.

المحطة السادسة: 30/1/2018 ..مؤتمر سوتشي

بعد جولة جنيف 7 وسط عام 2017 ظهر شيء من التوافق بين وفد الهيئة العليا للمفاوضات، وبين منصتي موسكو والقاهرة خلال أعمال ورشات لوزان التقنية، وهو ما اعتبرته روسيا بداية تحوّل في موقف الهيئة بعد الانسداد الذي ساد جولات جنيف السابقة، ودفعت باتجاه عقد مؤتمر الرياض 2 للمعارضة السورية في محاولة منها للتخلص من "العناصر الراديكالية" في الهيئة كما سمّتهم، وبالفعل انعقد مؤتمر الرياض 2 بتاريخ 22/11/2017 وحضره الروس الذين كانوا يتوقّعون صدور بيان ختامي يتجاوز الإشارة إلى مصير بشار الأسد، ووضع مغادرته للسلطة بدء المرحلة الانتقالية شرطاً مسبقاً من شروط المفاوضات السياسية، لكن البيان صدر عكس ذلك، مما أغضب الروس، وجعلهم يتخذون قراراً بالذهاب إلى تصنيع معارضة بديلة عن هيئة التفاوض تقبل بالإملاءات الروسية، وهذا ما كان وبدأت بتوجيه الدعوات لحضور مؤتمر سوتشي الذي انعقد بتاريخ 30/1/2018 أي بعد شهرين فقط من تشكيل هيئة التفاوض السورية الجديدة عقب مؤتمر الرياض 2.

استمراراً لأداء وفد المعارضة العسكري السيئ في مسار أستانا، وقبولها متابعة الانخراط فيه رغم كل خروقاته، فإنه هنا أيضاً وعلى خلاف موقف الائتلاف الوطني وهيئة التفاوض اللذين أعلنا رفضهما المشاركة في المؤتمر، فقد أرسل الوفد العسكري ممثلين له إلى سوتشي عادوا من المطار بسبب بعض الخلافات مع المنظّمين، بعد أن أعطوا تفويضاً للجانب التركي لينوب عنهم في المؤتمر.

انبثق عن مؤتمر سوتشي لاحقاً الاتفاق على تشكيل لجنة دستورية بغرض صياغة إصلاح دستوري، واعتمد البيان الختامي المبادئ الاثني عشر التي أصدرها المبعوث الدولي "دي ميستورا" نهاية جولة مفاوضات جنيف 8.

وهنا حاولت المعارضة السياسية احتواء خطأ الوفد العسكري في المشاركة، وضغطت باتجاه ألا تنفرد روسيا بتشكيل اللجنة الدستورية، وكان لها ما أرادت حين قررت الأمم المتحدة بعد تدخّل أمينها العام في جعل اللجنة الدستورية مكونة من ثلاثة أقسام متساوية من 50 عضواً لكل من المعارضة ممثلة بهيئة التفاوض، والنظام، إضافة إلى 50 عضواً تسمّيهم الأمم المتحدة.

الأمر الثاني الذي لا زالت المعارضة السياسية تسعى لتداركه بعد مؤتمر سوتشي، هو إعادة العمل بالقرار 2254 بكامله الذي يضم إلى جانب الدستور قضية الانتخابات والحكم، وهو ما جعلته هيئة التفاوض شرطاً في موافقتها على الانخراط في تشكيل اللجنة الدستورية، فالدستور وحده لن يكون كافياً لإحداث التغيير السياسي المنشود في البلاد، ما لم يترافق ذلك بتغيير الحكم الحالي، وإنشاء بيئة آمنة ومحايدة يمكن أن تُجرى في ظلها انتخابات حرة ونزيهة.

الفرصة الآن بعد الاجتياح الروسي لإدلب آخر مناطق خفض التصعيد صارت مواتية ليعلن الوفد العسكري نهاية هذا المسار، ويعلن عدم مشاركته فيه مستقبلاً بأي شكل من الأشكال، وبذلك يعطي الحق للفصائل المقاتلة للرد على الروس والنظام في المناطق التي يمكن للفصائل أن تعمل فيها من الجنوب إلى ريف دمشق إلى ريف حمص إلى جميع المناطق الأخرى المحتلة من طرف روسيا والمليشيات الإيرانية واللبنانية والعراقية.

بهذا القرار ستعود الأمور إلى نصابها في إيقاف المسارات الجانبية لمسار جنيف الأممي الذي يستند إلى قرارات مجلس الأمن، والعودة بالعملية السياسية والعسكرية إلى ما قبل نقطة "أستانا صفر" التي ظهرت آثارها الكارثية على الثورة السورية.