السبت 2019/09/14

 اللعبة الفرنسيّة الخطرة في سوريا!

بعد ثماني جولات من مفاوضات جنيف، اجتمعت مجموعة الدول الخمس المصغّرة، الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والسعودية والأردن، في باريس أول مرة 23/1/2018، وأصدرت "ورقة غير رسمية بشأن إحياء العملية السياسية في جنيف بشأن سورية" وزعمت أنها وضعتها "استناداً إلى قرار مجلس الأمن 2254، وقررت فيها أنّ تسمية ما يجري أنه جولات تفاوضية  "يثير بلا داعٍ توقعات بإحراز تقدم ملموس في كل جولة"، بينما العملية السياسية عند النظر إليها بواقعية أكثر، تسير نحو أن تكون بطيئة ومنهجية وتفتقر إلى تحقيق تقدم كبير، كانت تلك أيضاً رسالة مبطّنة إلى مسار أستانا الذي كانت جولاته قد وصلت إلى رقم مشابه تقريباً لجولات جنيف.

حسب بيان جنيف 30 حزيران/يونيو 2012 فإن الخطوات الرئيسية لأية عملية انتقالية كانت مرتبة بالبدء "بإقامة هيئة حكم انتقالية باستطاعتها أن تُهيّئ بيئة محايدة تتحرك في ظلها العملية الانتقالية"، وأن تعمل هيئة الحكم الانتقالية على إعادة "النظر في النظام الدستوري والمنظومة القانونية.

وأن تُعرَض نتائج الصياغة الدستورية على الاستفتاء العام" وأنه "بعد إقامة النظام الدستوري الجديد، من الضروري الإعداد لانتخابات حرة ونزيهة وتعددية"، هذا المفهوم كان واضحاً لدى المبعوث الدولي "دي ميستورا" حين وضع "مسودة الإطار التنفيذي لبيان جنيف" كذلك بقي هذا التسلسل موجوداً في القرار 2254 الذي تعتمده ورقة الدول الخمس، لكنها أوصت دي ميستورا أن يعمل على تركيز جهود الأطراف على مضمون الدستور المعدّل، وعلى الوسائل العملية للانتخابات التي تشرف عليها الأمم المتحدة، وعلى خلق بيئة آمنة ومحايدة في سورية يمكن أن تجرى فيها هذه الانتخابات، واعتبرت استعداد النظام للتركيز على هذه القضايا الثلاث بمثابة اختبار أساسي لالتزامه بالمشاركة البناءة في العملية السياسية.

في مثل هذا اليوم 14أيلول/سبتمبر قبل عام تماماً، أصدرت مجموعة الدول السبع بعد دخول ألمانيا ومصر فيها، عقب اجتماعها الثاني ورقة "إعلان مبادئ للمجموعة المصغّرة من أجل سوريا" أسقطت من بين ثناياها البيئة الآمنة والمحايدة التي كانت قد شغلت حيّزاً مهمّاً من الورقة الأولى، وأبقت فقط على "الإصلاح الدستوري" و"الانتخابات بإشراف أممي".

الاجتماع الثالث الذي انعقد أول أمس في جنيف تسرّب منه أنّ الفرنسيين طرحوا ورقة جديدة تتضمن إسقاط اللجنة الدستورية من حسابات العملية السياسية، والذهاب فوراً إلى الإعداد للانتخابات القادمة في البلاد عام 2021.

كيف يمكن فهم هذا الطرح الفرنسيّ ضمن المسارات الدولية للحل السياسي في سوريا؟

اللجنة الدستورية كانت "صناعة روسيّة" نتجت عن مؤتمر الحوار الذي انعقد في سوتشي 29/1/2018 أي بعد أسبوع واحد من الورقة الأولى للدول الخمس، التي كان توقيتها يهدف فيما يهدف إلى عدم انفراد الروس بالإشراف على اللجنة الدستورية تشكيلاً ومضامين، وإبقاء هذا الدور للأمم المتحدة، لكن بعد مضيّ عام على مؤتمر سوتشي هذا استقال دي ميستورا من منصبه بعد أن عجز عن التوصل لاتفاق فقط على أسماء أعضاء اللجنة الدستورية، والآن بعد تسعة أشهر من مباشرة "غير بيدرسن" مهامه يعجز هو الآخر عن ذلك، رغم الساعات الطويلة التي قضاها كلٌّ منهما على أبواب موسكو وطهران ودمشق في سبيل الحصول على الموافقة النهائية على قائمة أسماء أعضاء اللجنة الدستورية، والقواعد الإجرائية الناظمة لعملها، ولا يزال النظام يخترع العراقيل تلو العراقيل لتأخير إطلاقها، أو لمنعه بالكلية واستبدالها بلجنة دستورية "محلّيّة تشكيلاً ومضامين وإشرافاً" تعمل على تعديل بعض مواد الدستور الحالي.

اللعبة الروسية أسهل بكثير من هذه اللعبة الفرنسية الخطيرة، لم تكن اللجنة الدستورية سوى اجتماع 150 شخصاً سورياً ما يزيد على نصفهم هم من النظام بشكل مؤكّد، يعملون على صياغة إصلاح دستوري في بلد لا يكاد الدستور يجد له تأثيراً صغيراً أو كبيراً في الحياة السياسية، أو في الحياة العامة من حيث الحقوق والحريات وغيرها، ورغم عدم أهمية الدستور فإن النظام أصر على عدم الانخراط في اللجنة الدستورية، متذرّعاً بذرائع كثيرة على رأسها موضوع السيادة الوطنية، وعدم قبول التدخّل الأجنبي في الإشراف على كتابة الدستور الجديد.

كيف إذاً سيقبل النظام بهيئة انتخابات تتحدث الورقة الأولى والثانية للمجموعة المصغّرة عن صلاحيات أوسع بكثير للأمم المتحدة في الانتخابات، مقابل تلك الضئيلة الممنوحة لها في اللجنة الدستورية؟

هيئة إدارة الانتخابات (EMB) ستكون مسؤولة عن تنظيم العملية الانتخابية، وإجرائها وآلية للشكاوى الانتخابية تحت المسؤولية الكاملة للأمم المتحدة التي ستتولّى هي تعيين قيادة المؤسسات الانتخابية الانتقالية، ضمن إطار انتخابي لانتقال السلطة يستوفي المعايير الدولية، ويضمن تطوير سجل ناخب كامل ودقيق وحالي يسمح لجميع السوريين بالمشاركة في الانتخابات والاستفتاءات، ويزيل القيود على الترشُّح للانتخابات، بما في ذلك على منصب الرئاسة. ويضع معايير متفَقاً عليها حول أهلية الناخبين لضمان أن يتمكن النازحون داخل سورية وخارجها من التصويت. وأنّ مهام الأمم المتحدة في الرقابة القوية سينصّ عليها بقرار من مجلس الأمن لتمكين الأمم المتحدة من ضمان المسؤولية الكاملة في إجراء انتخابات حرة ونزيهة.

أدوار الأمم المتحدة تتضمن:

1-أن يكون لها دور في كافة العمليات اليومية المتعلقة بإدارة الانتخابات والشكاوى الانتخابية وعملية تسجيل الناخبين.

2-أن يكون لها دور في اتخاذ القرارات التنفيذية لهيئة الانتخابات ومعالجة الشكاوى الانتخابية.

3- إقرار نتائج الانتخابات والاستفتاءات خلال المرحلة الانتقالية في حال كانت الانتخابات قد استوفت المعايير المطلوبة.

هيئة إدارة الانتخابات -بعيداً عن هيئة الحكم الانتقالي، والإصلاح الدستوري-على الأقل قبل البيئة الآمنة والمحايدة، ستكون حماقة فرنسية متهورة، فالفرنسيون يدركون لا شكّ هذه الفروق بين اللجنة الدستورية، وهيئة إدارة الانتخابات، ويدركون الصعوبات اللوجستية التي ستواجه عمل هيئة إدارة الانتخابات بوجود الأجهزة الأمنية والعسكرية، وحتى مؤسسات الدولة المدنية الخاضعة للنظام، إضافة لصعوبات تسجيل الناخبين سواء النازحين أو اللاجئين، والعقبات التي تحول دون حصولهم على الوثائق اللازمة لإثبات هوياتهم الشخصية، ويدركون حجم الترهيب والتزوير الكبير الذي سيمارسه النظام ما لم يتوفر عدد كبير من المراقبين الدوليين، يمتلكون حرية الحركة والعمل، وهو أمر غير متوقع من نظام وضع قيوداً كثيرة سابقاً على قوة المراقبين الدوليين التي قادها "الدابّي".

الإطار الانتخابي اللازم يعني تغييراً في قانون الانتخابات الحالي، وهو يعني الحاجة إلى تغيير عدد من القوانين مثل قانون الجنسية، والإدارة المحلية، والأحزاب السياسية، والإعلام، والمجتمع المدني، وقانون العقوبات، إضافة إلى عدد من المواد الدستورية المتعلقة بالانتخابات، وعملية الوصول لهذا الإطار الانتخابي تشابه تقريباً عملية صياغة الدستور الجديد.

إذن لماذا يطرح الفرنسيون هذه المبادرة؟

هروب إلى الأمام وتضييع للوقت، كما هو الحال في كل مرحلة من مراحل الثورة السورية، التي تنقلّت بين المجلس الوطني السوري، ثم الائتلاف، فهيئة التفاوض، ثم ضمّ المنصات الأخرى إليها، وبين مبعوثين دوليين تباين طرحهم من النقاط الست، إلى مجموعات العمل الأربع، ثم السلّات الأربع، وبين مسار جنيف إلى مسار أستانا، ثم مؤتمر الحوار السوري واللجنة الدستورية، إلى أوراق مجموعة الدول المصغرة.

لكن لا بدّ من سبب آخر يمكن تفسيره بأمرين:

الأوّل: استبعاد قدرة المبعوث الدولي على إطلاق أعمال اللجنة الدستورية قبل انعقاد الجمعية العمومية للأمم المتحدة الأسبوع القادم، وبالتالي الذهاب نحو طرح مبادرة جديدة يمكن تمريرها بقرار من مجلس الأمن.

الثاني: المقعد الفارغ في اللجنة الدستورية الذي تريد دول هذه المجموعة منحه للمليشيات الكردية التي تنتشر في منطقة شمال شرق سوريا، والتي ترفض تركيا بشكل قاطع مشاركتها في اللجنة الدستورية، لذا سيكون ممكنا مشاركتهم في العملية السياسية عبر هيئة إدارة الانتخابات التي سيتم تعيينها من طرف الأمم المتحدة، وبذلك يتمّ تجنّب الفيتو التركي.

التحرك الفرنسي ليس جديداً، فهو منذ فترة يحاول جمع المليشيات الكردية مع المجلس الوطني الكردي المنضوي في الائتلاف وهيئة التفاوض واللجنة الدستورية، في مشروع الإدارة الذاتية لمنطقة شمال شرق سوريا، ومجموعة الدول السبع بالمجمل لديها خلافات مع تركيا، وتريد من خلال تمكين المليشليات الكردية في المنطقة، ومنحها غطاء قانونياً، واستثمار ذلك في حل تلك الخلافات، وفي الضغط على تركيا لعدم استخدام ورقة اللاجئين السوريين في فتح الطريق أمامهم للوصول إلى أوروبا، وفي كبح جماح التقارب التركي مع كل من روسيا وإيران.

الأوربيون يعملون أيضاً منذ فترة على الأرض شمال سوريا، شرقه وغربه، للوصول إلى سجل ناخبين قانوني يمكن الاعتماد عليه حال انطلاق أعمال هيئة إدارة الانتخابات، وخاصة في تمكين السوريين النازحين وكذلك اللاجئين من الحصول على وثائق هوياتهم الشخصية التي تتيح لهم المشاركة في الانتخابات القادمة، بحيث تستطيع منافسة كتلة الأصوات المتوقعة الموجودة في مناطق النظام.

ما هي خيارات المعارضة أمام المبادرة الفرنسية؟

المخاطر مرتفعة في قبول هذه المبادرة، لذا سترفضها المعارضة حتماً، لكن كما في كل مرة سيُطلب منها ألا تكون هي البادئة بالرفض، وأن تترك ذلك للنظام ليظهر هو بمظهر الرافض للحل السياسي، ثم يبدأ مسلسل الشروط والضمانات التي يمكن أن تحصل عليها المعارضة فيما لو أعلنت قبولها، يتبعه مسلسل طريقة تشكيل هيئة إدارة الانتخابات وحصّة كل مكوّن من مكوّنات المعارضة فيها، وغير ذلك.

الضمان الوحيد الذي يمكن أن يدفع المعارضة للقبول بالمبادرة هو ضمان منع بشار الأسد وكبار رموزه المدرجين على لوائح العقوبات الدولية من المشاركة في الانتخابات، وبالطبع هذا الضمان لن يقدمه أحد، والانتخابات ستكون مغامرة خاسرة حتماً، ما لم تسبقها تفاهمات دولية تخرج الأسد من الحكم بطريقة ما.

المعارضة أمام امتحان أسوأ من امتحان اللجنة الدستورية، لكنه يأتي هذه المرة من مجموعة دول الأصدقاء المحسوبين عليها، ويجب الانتظار حتى تخرج المبادرة إلى العلن بشكل رسمي.