الأحد 2020/02/23

اللجنة الدستورية حل لمشكلة أم إشكالية تطلب الحل؟

الكاتب: د. عبد الحميد عكيل العواك - دكتوراه في القانون الدستوري

عندما يدرك الشعب عوامل وحدته، وتعي الأمة أسباب قوتها، تبدأ المطالبة بدستور ينظم الحياة السياسية، ويضبط عوامل التقدم، ويمنع التغول على الحقوق والحريات، ويضمن العدالة في توزيع ثروة المجتمع.

الدستور الغائب المتحكم بالشعب السوري، والذي لم يُنتبه لدوره المهم قبل الثورة، يحضر بقوة كأحد أهم نتائج الثورة، وينزل من برج السلطة العاجي إلى صفوف المواطنين ليدخل في مفردات اللغة اليومية العادية، لتتسع دائرة الخلاف والحوار أكثر بعد تشكيل اللجنة الدستورية من قبل الأمم المتحدة، لكنه خلاف مثمر وحوار منتج، وإن تأخرت ثماره ونتائجه، فالثورة فكرة خلقت وعياً، والوعي لا يهزم ولا يموت.

ومن هذا المنطلق أقام مركز "حرمون" عدداً من الندوات الحوارية كان موضوعها الدستور، لتحريك الحوار بين السوريين، ومحاولة خلق مساحة تشاركية بينهم.

ومن هذه الندوات ندوة برلين، حيث تحدث الدكتور "زيدون الزعبي" في مداخلة بيَّن في آخرِها ستَّ نقاط عن "شرعية وأهمية" اللجنة الدستورية، ولأنني أختلف معه فيما ذهب إليه، سأحاوره في نقاطه الستّ التي أراد منها شرعنة عمل اللجنة الدستورية.

النقطة الأولى: يقول الزعبي: (هذه أول لجنة دستورية ذات سلطة أصليّة، وليست مشتقة، فلجنة دستور 1973 اشتقت شرعيتها من مرسوم وقعه حافظ الأسد، وكذلك دستور 2012 اشتقت شرعيتها من مرسوم وقعه بشار الأسد، وهذه أول مرة لدينا سلطة أصلية).

والجواب:

في البداية يجب أن نشير إلى أن هناك خلطاً في المفاهيم والمصطلحات، والمصطلح القانوني لم يأت من فراغ، ولن يذهب إلى فراغ، فكل مصطلح له دلالة علمية تترتب عليها نتائج عملية، لذلك فالمصطلح الخاطئ يؤدي إلى نتائج خاطئة.

عرّف الفقه الدستوري الهيئة أو السلطة الدستورية الأصلية بأنها الهيئة التي يختار الشعبُ أعضاءَها بطريقة الانتخاب لوضع دستور جديد للبلاد، وسمّيت "أصلية" لأنها لا تستمد صلاحيتها من أحد أو تشتقها من هيئة أو فرد بل تأخذها من الأمة صاحبة السيادة بشكل أصلي، وهذه السلطة الأصلية هي من تعطي الشرعية والوجود لباقي السلطات، لذلك فإن من أول شروطها أن تكون منتخبة من الشعب.

أما السلطة الدستورية المشتقة فهي سلطة تختص بتعديل الدستور الذي ينص على نشأتها، فهي مستمدة وجودها من الدستور.

إذاً هناك كلمتان "سلطة" و"أصلية"، بالنسبة للسلطة تستمد وجودها إمّا من الشعب وإمّا من دستور وضعه الشعب، وأمّا كلمة "أصلية" في هذا الموضع فهي سابقة على الدستور، ولا تدين بوجودها له، حيث يرى دوفرجيه (أن الدستور هو الذي يستمد سلطته من العضو المؤسس، وليس العضو المؤسس هو الذي يستمد سلطته من الدستور).

أما "المشتقة" فمهمتها تعديل دستور قائم، وأنت تعلم – صديقي- أن هذا الأمر لا يزال موضع جدل وخلاف كبير داخل لجنة الأمم المتحدة الدستورية؛ فهل هي مختصة بوضع دستور جديد؟ أم تعديل دستور 2012؟ وهذا لم تحسمه حتى الأمم المتحدة لذلك لا نستطيع أن نصفها بــ (السلطة) ولا بـ (الأصلية).

أما في الأنظمة الأوتوقراطية فيتم وضع الدستور بواسطة الحاكم الذي يعين لجنة فنية، وهذا ما كان عندما وضعت دساتير 1973 و2012 لجاناً فنية لا توصف بالسلطة مطلقاً، فهي "لا أصلية ولا مشتقة" لأنها تضع منتجاً بيد الشعب ليتم إقراره من قبل الشعب، وليس لها دور سوى الصياغة.

وهذا ما نراه ينطبق على اللجنة الدستورية الأممية فهي لجنة فنية مهمتها وضع دستور يقره الشعب، مثلها مثل اللجان الفنية التي وضعت سابقاً في آخر دستورين سوريين، والحقيقة القانونية "المُرّة" أنها دون ذلك أيضاً.

ولا يمكن وصفها بالأصلية لأنه توصيف خطير يمنحها حق إقرار دستور دون الرجوع إلى الشعب، وبهذه الحالة نكون أمام دستور يُفرض على الشعب دون أدنى إرادة منه.

ونؤكد هنا ما يقوله الفقيه هوريو: (بأن العملية الدستورية لا تتم بطريقة صحيحة ومُجدية إلا عندما تدرك الأمة ضرورة إعادة بناء الدولة وتساهم مساهمة فعلية في هذا البناء).

النقطة الثانية: يقول الزعبي في أهمية اللجنة الدستورية (هذه السلطة الأصلية لديها شرعية دولية، وليست لديها أي مشروعية، بمعنى أصبحت أعلى سلطة في سورية قانوناً). والجواب:

هذا الكلام فيه مغالطة قانونية فهي ليست سلطة أصلاً، ولن تكون سلطة مطلقاً-كما بيّنا سابقاً-.  إن السلطة الأصلية مستمدة من سيادة الأمة على نفسها، وهذه السيادة لا تُعطل ولا تُلغى ولا تُعلّق على شرط، ما دامت الأمة موجودة، فوجودها دائم من وجود الأمة، واستمراريتها غير منقطعة من استمرارية امتلاك الأمة لسيادتها، بينما توصيفها القانوني هو لجنة معينة من قبل الأمم المتحدة وحازت رضاها، فكيف تكون أعلى سلطة؟

فهي لجنة بقولك: (إنها لا تملك المشروعية) هذا من جهة، ومن جهة أخرى فالسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية موجودة في سوريا، ولا تستطيع اللجنة الدستورية الأممية فرض أي أمر على أي سلطة. لا يمكن أن نعطيها هذا الوصف إلا إذا تم حل جميع السلطات في الدولة وأصبحت هي هيئة حكم انتقالي، وكيف تكون أعلى سلطة في الدولة، ويستطيع "رئيس الجمهورية" تغيير أي عضو فيها أو تغيير جميع أعضائها وهو الذي عينهم ابتداءً؟.

لكن لو حصل وحُلت جميع السلطات في الدولة السورية، تصبح أقوى سلطة من الناحية الواقعية الفعلية (يعني سلطة أمر واقع)، وليست من الناحية القانونية، وبين المصطلحين فرق كبير وتترتب عليه نتائج عملية خطيرة.

النقطة الثالثة: يقول الدكتور الزعبي: (ما يخيف النظام من اللجنة ويجعل منه عدواً لها، هو أنّ هناك مرتين في تاريخ سورية تحوّلت اللجان التأسيسية إلى برلمانات (1920-1950) واللجنة الآن تركيبتها 150 عضواً، خمسون للمعارضة وخمسون للنظام، وتمثيل جغرافي، واثني، وشكلها شكل برلمان، في حال لحظة توافق دولي على تحويلها إلى برلمان أصبحت جسم حكم انتقالي).

والجواب:

في البداية هناك أسلوبان للجنة التأسيسية المنتخبة، الأسلوب الأمريكي وهو يقوم على انتخاب جمعية تأسيسية مختصة فقط بوضع الدستور، والأسلوب الثاني الفرنسي يقوم على انتخاب جمعية تأسيسية تقوم إلى جانب وضعها للدستور بوظائف البرلمان التشريعية والرقابية.

وهذا ما أخذت به تونس عند انتخابها المجلس الوطني التأسيسي بعد عام 2011 وكذلك سوريا في عام 1920 و1950 بعد أن تم انتخاب جمعية تأسيسية وضعت الدستور ومارست اختصاصات برلمانية.

وهنا تشبيه مع الفارق، فاللجنة تم تعيينها من قبل أطراف متعددة ولم تُنتخب من قِبل الشعب السوري، فهل يوجد برلمان في دول العالم غير منتخب؟

وتمثيلها الإثني والجغرافي غير متوازن وغير متوافق مع عدد سكان المناطق والمكونات، على عكس الهيئات المنتخبة في عام 1920 و1950 فقد كانت منتخبة من الشعب، لذلك يمكن إعطاؤها صفة "برلمان".

أما لجهة اعتبارها "برلمان في لحظة توافق دولي" فهذا خاضع للسياسة وتوافقاتها وحساباتها، وممكن حدوثه، لكن حصوله لا يشبه ما حصل سابقاً، وفرضه كأمر واقع لا يمنحه الشرعية أو المشروعية، إنما يمنحه سلطة أمر واقع أو سلطة فعلية.

النقطة الرابعة: يقول الدكتور الزعبي: (هذه أول مرة يفصل العسكر عن السياسة، عند هزيمة المعارضة وخسارتها للأراضي كان للمعارضة 50 اسماً وللنظام 50 اسماً، يعني انفقد التناسب ومما يعني: اخسر ما شئت من الأراضي فلك ما للنظام في مستقبل سوريا السياسي. فصل العسكر عن السياسية في لحظة الهزيمة مهم جداً).

والجواب:

منذ بداية الثورة والمجتمع الدولي والأمم المتحدة تؤكد أنْ لا حلَّ عسكريّاً في سوريا، وهذه العبارة تعني أنه لا يوجد حل جزئي أو كلي قائم على أساس القوة، فنتيجة طبيعية أن يأتي تدخل الأمم المتحدة في هذا السياق، وهو أنْ لا ترابط بين نتائج الحرب على الأرض وواقع التفاوض، ومنذ بداية التفاوض تم تشكيل وفود من النظام والمعارضة بشكل متوازن، ونظر لهم المجتمع الدولي على أساس فريقين متساويين ومتناظرين، بغض النظر على من يكسب على الأرض، وإنّ مراجعة بسيطة للقرارات الدولية المتعلقة بالشأن السوري تؤكد ذلك.

واللجنة الدستورية لم تكن استثناءً من ذلك، بل هي إنتاج مسار جنيف وأستانا وسوتشي معاً، القائمة على معادلة وجود طرفين متساويين ومتناظرين.

النقطة الخامسة: يقول الدكتور الزعبي: (هذه أكثر لجنة تمثيلية لسورية منذ عام 1958).

والجواب:

هذه العبارة من أين مستوحاة؟! فعند ذكر كلمة (تمثيلية) نعني الديمقراطية غير المباشرة، أي إن هذه اللجنة ممثلة للشعب السوري، ومن يمثل الشعب السوري يجب اختياره من الشعب، وهذا ما يعاب على انتخابات بشار البرلمانية حيث نقول "غياب إرادة الشعب"، ولذلك فالبرلمان لا يمثل الشعب، وفي الفقرة الثانية تنفي عنها المشروعية فكيف تكون أكثر لجنة تمثيلية لسوريا؟

أما إذا كنت تقصد بأن من هم داخلها من أعضاء يغطون بانتماءاتهم المساحة الجغرافية والإثنية في سوريا، فهذا أيضاً مجانب الصواب؛ لأن برلمان بشار كان يختار أعضاء من كل محافظة بنسبة وتناسب تقريبي وفق عدد السكان، ويختار من المكونات أعضاء ويختار المرأة، ولكن هو من يختار وليس الشعب، وكذلك اختيار هذه اللجنة.

علماً بأن اللجنة لم توفق بالاختيار الجغرافي، فعلى سبيل المثال السريع، تمّ غبن محافظة الرقة في "خمسين المعارضة"، وتم تمثيل ثلاثة أعضاء من محافظة دير الزور، في حين تجاوز عدد أعضاء محافظة الحسكة سبعة أعضاء، ومثلها درعا، ولو أجرينا إحصائية دقيقة لكانت لدينا نتائج سيئة جداً عن التمثيل الجغرافي والإثني.

النقطة السادسة: يختم الدكتور الزعبي مداخلته بالقول: (إذا كان المطلوب منها إسقاط النظام بكافة رموزه وأشكاله وإعادة هيكلة الجيش والأمن وإصلاح الأجهزة الأمنية وطرد الميليشيات الشيعية فعلينا انتظار الكثير من الوقت بمعنى هذه ليست مهمتها).

والجواب:

تقول الدكتورة سعاد الشرقاوي: (عادة ما يكون كل دستور جديد خاصة بعد قيام ثورة، هو عقد اجتماعي يؤسس لعصر جديد، وفكر جديد، ومرحلة حضارية غير مسبوقة)، ويؤكد الفقيه الفرنسي هوريو (أن العملية الدستورية تجديد لتأسيس الدولة يتم بمساهمة الأمة مساهمة إيجابية وواعية).

إذا كانت هذه اللجنة لا تستطيع تغيير أي شيء في منظومة الاستبداد والدكتاتورية ولا تستطيع أن تؤسس للتغيير الديمقراطي من خلال دستور يتجاوز أخطاء الماضي فما فائدتها؟ ولماذا نؤيدها؟ ولماذا نقدم لها النصائح؟

عذراً -صديقي زيدون- فأنا لست معك فيما ذهبت إليه، فإن لم يساهم الناس في بناء الدستور الذي يوضع ويطبق فنحن أمام مجتمع بلا دستور.