الأحد 2020/03/08

الدستور بين السياسي والقانوني

د. عبد الحميد عكيل العواك - دكتوراه في القانون الدستوري

مما لا شك فيه أن الدستور نتاج مجتمع قانوني وسياسي، تتداخل فيه السياسة والقانون، وإن كان في إنتاجه الأول يظهر تأثير القانون ورجاله، إلا أنه في التطبيق يتأثر فيمن يطبقه، وهم رجال سياسة.

في زمن قلَّ فيه الدستوريون وكثر السياسيون، بينما تكون الحاجة ماسة إلى الإثنين معاً، فالحاجة للدستوري لصياغته، وللسياسي ليفقهه، ويقف عند حدوده لحظة التطبيق.

السياسي واللغة القانونية:

رجل السياسة يستخدم لغة مرنة فضفاضة تعطيه مزيداً من المرونة مع قضاياه السياسية، ولكن عندما يرغب باستخدام المصطلح (القانوني) فهو يتجه إلى التحديد والتقييد، والتبيان الدقيق، لذلك قلّما يبني السياسي موقفه على مصطلحات قانونية لأنها وإن كانت تشكل له رافعة نحو المصداقية إلا أنها بالمقابل تضعه في دائرة المساءلة والمحاسبة.

كما إن استخدام المصطلح القانوني في اللغة السياسية لا يعني التحلل من مدلوله، أو أن السياسة تجيز تفسيره بغير ما هو متعارف عليه، لأن الاستخدام الخاطئ للمصطلح ينفي عن اللغة السياسية ما أرادت الاستدلال به، أو ما حاولت الوصول به إلى نتائج.

عند صياغة الدستور يجب تراجع السياسي ولغته ليفسح المجال لتقدم القانوني ومصطلحاته، لأننا نكون أمام استحقاق للحقوق والحريات والتزامات للسلطة وتحديد لصلاحياتها، فنحتاج لغة منضبطة أكثر من حاجتنا الى لغة فضفاضة ومرنة، ونحتاج لخبير بالتعامل مع النص أكثر من حاجتنا للسياسي، لأن كل اختلاف بين سياسيين في معرض النص الدستوري لتصويره على أنه غير واضح أو قابل للتأويل هو تسييس وتلويث وليس فقهاً دستورياً.

ولأن النصوص القانونية لا تقبل في العموم استنساب سائب في الصياغة والتفسير والتطبيق، وأكثر ما ينطبق هذا المبدأ على النصوص الجزائية والدستورية، التي ينبغي أن تصاغ بأكبر قدر من الوضوح والالتزام على متولي السلطة حتى لا تترك مجالاً للاجتهاد والتقدير، لذلك من المستأنس أن يتولى مهمة الصياغة رجل القانون لأنه أميل إلى الضبط والتحديد.

المصطلح القانوني لا يتبدل لا في زمن الحرب ولا السلم، فهو يحمل ذات الدلالة، فالسلطة التأسيسية الأصلية هي التي تستند إلى إرادة الشعب سواء كنا في زمن الحرب أم السلم، فإذا كانت ظروف الحرب لا تسمح باختيار أعضائها، فعند ذلك سيكون لها مصطلح آخر ودلالة أخرى وصلاحيات أخرى، وسيكون اسمها لجنة فنية لصياغة الدستور، وتنحصر مهمتها في الصياغة فقط، وتترك أمر إقرار الدستور للشعب.

كذلك مصطلح التمثيل الشعبي، لا يمكن أن تأتي بعدد من العناصر لتمثل المحافظات والمكونات وتقول: هذا تمثيل خير من غيره، بل يجب أن يكون هؤلاء من اختيار الشعب الذي يمثلهم، وليست القضية مرتبطة بحرب أو سلم، أو بالجهة التي اختارتهم سواء كانت سلطة انقلابية أو سلطة أممية متدخلة بشأن دولة من الدول، أو دول محتلة وضامنة لا فرق، علينا ألا نخدع أنفسنا ولا نخدع الآخرين، نقولها بصراحة نتيجة الحرب والظرف الاستثنائي تم اختيار لجنة فنية مهمتها الصياغة فقط، والرأي النهائي للشعب.

الأمم المتحدة ودلالات المصطلح القانوني لديها:

أنا أجد أن الأمم المتحدة لم تتلاعب بالمصطلحات مثل من يريد تسويق اللجنة في ظل كسادها الشعبي، فهم قد استخدموا مصطلح (لجنة دستورية) ومصطلح (إصلاح دستوري) ومصطلح (الموافقة العمومية) وهي دلالات واضحة وصحيحة.

والحقيقة أن الأمم المتحدة أخطر ما في بياناتها ما تحمله لغتها من تفسيرات متعددة، وهي لغة مقصودة، بحيث تخاطب جميع الأطراف وكل طرف يقدم تفسيراً مختلفاً يناسب مصالحه، لكن عندما تستخدم مصطلحاً قانونياً تستخدمه بدقة متناهية لأنها تعلم بأن المصطلح القانوني ذو اتجاه واحد ولا يقبل التفسيرات أو التأويلات فهي استخدمت مثلاً اللجنة الدستورية ولم تسمها (سلطة) أو (أصلية) أو (مشتقة)؛ فهي لجنة صياغة فقط سواء ذهبت إلى صياغة دستور جديد أو عدّلت دستور 2012 فهي لجنة وليست سلطة، لذلك من يصفها بـ"سلطة أصلية" هو من باب التزيّد والتجميل غير المبرر، ولا يقبل الاستخدام الخاطئ بذريعة أن لغة السياسة تختلف عن لغة القانون.

كذلك مصطلح (إصلاح دستوري) فهو يحمل دلالة على أن تغييراً دستوريّاً سيأتي سواء بالتعديل أو بوضع دستور جديد، فهو مصطلح لا يعيق ما تتفق عليه الأطراف الدولية وينعكس على أطراف اللجنة.

والموافقة العمومية مصطلح دقيق استخدمته الأمم المتحدة ويعني الحصول على موافقة الشعب، سواء بشكل مباشر (عن طريق الاستفتاء) أو عن طريق ممثلين للشعب وهذا تفسير به خطورة، ولكن في جميع الأحوال فلن تقر اللجنة الدستورية الدستور لأنها لا تملك الموافقة العمومية.

اللجنة الدستورية والشرعية الدولية:

الفعل حتى يستمد شرعيته من القانون يجب ألا يخالف نص وروح القانون، لذلك عندما نقول اللجنة الدستورية تحظى بشرعية دولية، فيجب ألا يخالف قرار تشكيلها ومهامها القانون الدولي وتوصيات الأمم المتحدة.

لو عدنا إلى القانون الدولي لوجدنا أنه يضبط حدّاً أدنى للمساهمة في إدارة الشؤون العامة التي يجب أن يتمتع بها المواطن، فنص المادة 25 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية يقول: "يحق ويتاح لكل مواطن دون تحيز أن يشارك في إدارة الشؤون العامة إما مباشرة أو بواسطة ممثلين مختارين بحرية"، وأكدت لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في التعليق العام رقم 25 الصادر في 1996 م6 "أن المشاركة المباشرة للمواطنين في إدارة الشؤون العامة تشمل الإجراءات المتعلقة بعملية صياغة الدستور".

ولا ننسى أن الجمعية العامة للأمم المتحدة أصدرت توصيتها في العدد رقم 2625 تاريخ 24 أكتوبر 1970 لمبدأ الاستقلالية الدستورية للدول الأعضاء، الذي يستند إلى أن لكل دولة الحق في اختيار نظامها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي بكل حرية. هذه التوصية أولى الهيئات بالالتزام بها هي الأمم المتحدة على اعتبارها صادرة عنها.

والذي نراه حتى تستمد اللجنة شرعية دولية منبثقة من القانون الدولي أن تنسجم مع ما سبق، أما ما يحدث فإن رضا الدول على تشكيل اللجنة منبثق من مصالحها، وليس من القانون الدولي.

اللجنة الدستورية وتمثيلها للشعب:

جزء من الشعب السوري يعيش حالة من الرفض للجنة منذ تشكيلها، وأتمنى أن يستند في رفضه إلى الفكرة وإلى تدخّل الدول والأمم المتحدة أكثر مما هو رفض للأشخاص، لأن الرفض الأول دليل وعي سياسي واجتماعي، والرفض الثاني يدخل في مجال تنافس بدائي لما قبل الدولة.

إذا كان أعضاء اللجنة الدستورية لم يتم انتخابهم من قبل الشعب، فلا يعني هذا أن يعملوا خارج إرادة الشعب، بل يتوجب عليهم بالتفكير التكتيكي والاستراتيجي في أن تعود الأمانة إلى أهلها، أي عودة الدستور للشعب، لذلك فإن محاولة بعضهم تسويقها بإعطاء اللجنة دوراً أكبر من دورها أو تسميتها بغير مسماها وإعطائها مهام واسعة، أجدها محاولة ضارة باللجنة وأعضائها وعلاقتها مع الشعب، لأنه كلما وسّعنا من صلاحياتها صادرنا دور الشعب، الذي كلما شعر بتقليص دوره ازداد رفضه للجنة، بعيداً عن كل التكهّنات التي تتحدث عن احتمال أن تبث التوافقات الدولية روح الصفة البرلمانية في اللجنة الدستورية مستقبلاً.

لذلك يجب على اللجنة تقليص دورها ومهامها، لأن تقليص دورها هو تقليص لدور النظام وممثليه، وإعطاء مساحة أكبر لدور الشعب، وذلك بالعمل على أن تكون مهمتها إعلان دستور مؤقت (إن استطاعت ذلك) يعد لمرحلة انتقالية دون أن يتضمن قيوداً تفرض على الدستور الدائم، والإصرار على الاستفتاء الشعبي.

وهنا نستحضر التاريخ لندلل على دور الشعوب في تقبل دساتيرها ورفضها، في 18 أيلول عام 1787 وفي اليوم التالي لفض اجتماعات مؤتمر الدستور الأمريكي الفيدرالي أرسل جورج واشنطن أول نسخة من 500 نسخة الأولى من الدستور إلى الماركيز دي لا فايت، وكتب له يقول: ((إنه الآن -يعني الدستور- طفل الحظ، سيشرف على تربيته بعضهم ويطعمونه، ويأخذ بيده آخرون، أما عن الرأي العام حوله، أو كيف سينظر إليه الناس ويستقبلونه، فهذا ليس من شأني، ولن أذكر أي شيء لصالحه أو ضده، فإذا كان صالحاً فسوف يشق طريقه بهدوء وبشكل جيد، وإذا كان سيئاً فسوف ينعكس على أولئك الذين وضعوا أطره وأسسه)).

هكذا تكلم جورج واشنطن مع صدور أول نسخة من الدستور الأمريكي، فقد ترك الحكم للمواطنين على الدستور من حيث صلاحه أو فساده، وهو دستور نتاج ممثلين اختارهم الشعب بإرادة حرة وواعية.

في الختام لا أستطيع إلا أن أكون مؤمناً بأن أي دستور كالسلام.. لا يمكن فرضه من الخارج.