الأحد 2019/08/18

هذا ما حققه ترامب لإيران بعد تهديدات “العقوبات الأقسى”؟

 سمعتُ يوماً من أحد الباحثين في الشأن الإيراني قوله، إن إدارة أوباما "الناعمة" شكّلت خطراً على النظام الإيراني أكثر من إدارة ترامب "المتشددة".

 تبرير الباحث تناول جانباً في بنية الحكم في إيران، مفاده أن باراك أوباما خاطب العقل الجمعي للشعب الإيراني، وعبر خطاب هادئ استطاع إيصال فكرة مفادها "الولايات المتحدة لا تريد إيذاءكم، من يحكمكم هم الذين يؤذونكم"، أما دونالد ترامب فاستطاع من خلال تهديداته الفارغة وعقوباته الواهية، مساعدة نظام الولي الفقيه في كسب التأييد الشعبي عبر الإيحاء بأن "الشيطان الأكبر" يريد ابتلاعكم.

قد يكون التحليل السابق على جانب كبير من الصواب، غير أن الأكثر صوابية أن كلاً من أوباما وترامب خدم النظام الإيراني بطريقته الخاصة، فالسياسة الأمريكية التي يمثلها كلا الرئيسين لا تنظر إلى إيران كعدو أصلاً، بل إنها تستخدم "المناكفة التاريخية" معها لغرض واحد.

 قرر دونالد ترامب في أيار 2018 الانسحاب من الاتفاق النووي للدول العظمى مع إيران الموقع عام 2015، ورأى أنه "كارثي" وأنه "أسوأ اتفاق" نفذته إدارة سلفه أوباما، وتوعّد الرئيس الأمريكي إيران بمواجهة "أقسى عقوبات في التاريخ"، في حال لم تنفذ قائمة من 12 طلباً، أهمها:

 1- التنازل عن أي خطوات من شأنها السعي للحصول على سلاح نووي.

 2- وقف نشر الصواريخ الباليستية.

 3- سحب جميع القوات التابعة لإيران من سوريا، ونزع سلاح المليشيات المدعومة من إيران في العراق.

 4-  وقف دعم "التنظيمات الإرهابية" في الشرق الأوسط (تضم هذه القائمة الأمريكية كلا من "حزب الله" اللبناني، وحركتي "حماس" و"الجهاد" في فلسطين، وجماعة الحوثي في اليمن، وجماعات أخرى).

 5- التخلي عن تهديد عمليات النقل البحرية الدولية.

 وفي سبيل "إجبار" إيران على تنفيذ قائمة المطالب، فرضت إدارة ترامب عدة عقوبات على طهران، وأدرجت "الحرس الثوري" الإيراني في قائمة الإرهاب، وتوعّدت بـ"تصفير" الصادرات الإيرانية من النفط.

 يمكن القول بارتياح إن سياسة ترامب الهجومية تجاه طهران، نجحت إلى حدّ كبير في تحقيق ما أرادته إدارة "خامنئي" من إيقاف موجة السخط الشعبي عليها، فلم تعُد السياسات الإيرانية المتهوّرة هي سبب تردّي الوضع الاقتصادي للبلاد، بل إن "خطراً خارجياً" تشكّله الولايات المتحدة بات هو الهاجس الأكبر للإيرانيين.

 ما الذي حققه ترامب بعد أكثر من عام:

 نظرة سريعة إلى مُجمل المطالب التي أراد ترامب تحقيقها عقب الانسحاب من الاتفاق النووي وفرض عقوبات على طهران، تثبت أن سياسة البيت الأبيض قدّمت أكبر خدمة لطهران.

 1- على صعيد البرنامج النووي، تقوم إيران خطوة خطوة بالتنصّل من البنود التي تُلزمها في الاتفاق، إذ رفعت مستوى إنتاجها من اليورانيوم المخصّب إلى كميات قياسية، كما أعادت العمل بأجهزة الطرد المركزي في منشأة "فوردو" النووية، وهدّدت بمزيد من الخطوات في حال لم يحقق لها الأوروبيون مطالبها بمتابعة تصدير النفط.

باتت اليوم إيران في موقع المهاجِم بدلاً من موقع الدفاع، حتى إنها تبتزّ الأوروبيين بتصريحات شبه يومية أنها ستنفض يدها من الاتفاق في حال عدم تحقيق مطالبها.

 وقالت صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية نهاية شهر تموز الماضي، إن واشنطن قررت تجديد إعفاء 5 برامج نووية إيرانية من العقوبات، وهو ما يسمح لروسيا والصين ودول أوروبية بمواصلة التعاون في المجال النووي السلمي مع إيران.

 2- على الصعيد الاقتصادي لا بد من القول إن إيران لم تتضرر كثيراً، ولا سيما أن شركاءها الباقين في الاتفاق النووي (روسيا والصين وأوروبا) تعهّدوا بمساعدتها على تجاوز آثار العقوبات الأمريكية.

 وأفادت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية في تقرير لها أن 12 ناقلة إيرانية على الأقل لا تزال تنقل النفط الإيراني إلى مختلف أنحاء العالم، رغم مساعي واشنطن لقطع الصادرات النفطية لطهران.

وذكرت الصحيفة في تقريرها أنها تتبعت تحركات أكثر من 70 ناقلة إيرانية منذ 2 مايو، أي موعد إلغاء واشنطن إعفاءاتها الممنوحة لدول أخرى عن عقوباتها ضد قطاع النفط الإيراني، لتكشف أن 12 من تلك السفن نقلت شحنات من النفط إلى الصين وشرق المتوسط. وأشارت الصحيفة إلى أن نتائج تحقيقها تؤكد أن الحجم الحقيقي لصادرات النفط الإيراني يتجاوز بشكل ملحوظ تقييمات الرأي العام، ولفتت الصحيفة إلى أن نقل وشراء النفط الإيراني لا يعد مخالفة للقانون الدولي، لأن العقوبات الأمريكية هي "أحادية الجانب".

 كل هذا يعني أن التهديد بـ"تصفير الصادرات النفطية" لا يزال هدفاً أمريكياً بعيد المنال، إن لم يكن مستحيلاً أصلاً.

 3- في إطار المطالب الأمريكية بتقليم أظافر إيران بالشرق الأوسط، يمكن القول إن النفوذ الإيراني في عدة دول بالمنطقة لم يتأثر قط، بل يمكن ملاحظة أن ذلك النفوذ ارتفع بعض الأحيان.

في سوريا.. لا تزال إيران لاعباً كبيراً وكبيراً جداً، ولا يخفى على أحد أنها تتقاسم مع روسيا بشكل فعلي السيطرة على المفاصل الحيوية والعسكرية في نظام الأسد، وأن مليشياتها تسيطر على مساحات واسعة في المنطقة الشرقية ( ريف دير الزور الشرقي شامية)، إضافة إلى نفوذها الحيوي في مدينة حلب، ومناطق كثيرة في الجنوب السوري (درعا والقنيطرة).

وفي لبنان.. لم يتأثر النفوذ الإيراني مع وجود مليشيا "حزب الله" التي تسيطر على أجواء واسعة في الدولة اللبنانية، من الحكومة إلى البرلمان.

 وفي العراق.. لا تزال إيران هي المسيطر الفعلي على غالبية الكتل السياسية الحاكمة، ولا تزال مليشياتها (الحشد الشعبي)، صاحبة السطوة على الأرض، حتى وصل الأمر بأحد قادة مليشيات الحشد إلى مهاجمة "الجيش العراقي" الرسمي والدعوة إلى حله.

 أما في اليمن فالقصة تأخذ بُعداً آخر تماماً، فإيران التي كانت تدعم مليشيات الحوثي سراً وبشكل حدود، باتت اليوم من أكثر الدول الفاعلة في الملف اليمني، ولا يخفى أن المليشيات الحوثية التي تدعمها تحولت خلال عام إلى قوة ضاربة تستطيع تهديد أمن السعودية بأسلحة نوعية متطورة، ما دفع الرياض بحسب صحيفة " وول ستريت جورنال" الأمريكية، إلى دراسة مقترحات لإجراء محادثات مباشرة مع الحوثيين لإيجاد حل سياسي لإنهاء الحرب في اليمن، وما دفع الإمارات كذلك إلى الإعلان عن "إعادة انتشار" في المناطق التي تسيطر عليها جنوب البلاد.  ولا ننسى كذلك أن الحوثيين عيّنوا في طهران مؤخراً "سفيراً فوق العادة".

4- في نطاق المطالب الأمريكية بتخلي إيران عن تهديد عمليات النقل البحري، فيمكن القول إن طهران أصبحت اليوم "سيدة" مياه الخليج، واستطاعت خلال أشهر قليلة فرض كلمتها في مجال النقل البحري بمنطقة الخليج ومضيق هرمز، ولم تفلح تهديدات ترامب في كبح نفوذها هناك، بل إن ما حدث هو العكس تماماً، إذ قامت إيران بأكثر من عملية احتجاز لناقلات نفطية أجنبية، كان من بينها ناقلة بريطانية، وهدّدت باستهداف أي قوة بحرية أجنبية في مياه الخليج. وهذا ما اضطر الإمارات إلى إرسال وفد رفيع المستوى إلى طهران، في مهمة ظاهرها التنسيق حول "أمن الحدود"، وباطنها استجداء طهران لعدم التعرض لمصالح أبو ظبي النفطية والتجارية في الخليج والمضيق.

 هذه خلاصة سريعة شملت أهم المطالب التي أرادتها إدارة ترامب قبل أكثر من عام على انسحابها من الاتفاق النووي، ولعل كل بند منها يحتاج إلى وقفة مستقلة ومستفيضة، ويثبت بما لا يدع مجالاً للشك، أن أي تصعيد من جانب الولايات المتحدة ضد إيران، دائماً ما يعود بالنفع على إيران نفسها، ويضع حلفاء الولايات المتحدة في مزيد من الحرج والضعف.