الأحد 2016/09/11

نقد نقاد عسْكرة الثورة السورية

ثمة كتاب سوريين متخصصين بنقد كل مظاهر الثورة السورية، متسلحين بكلمتين هنا وهناك ضد نظام بشار. لا يفوِّتون على أنفسهم تبدلاً ما في الميدان العسكري، حتى ينقضّوا بـ"دروسهم" على الثورة.

آخر تلك الدروس، ما بذله أحد هؤلاء الكتاب إثر "هزيمة" داريا وخروج أهلها منها في ملحمة وافية من ملاحم التهجير والتشريد باشراف النظام.

دروس يريدها مستخلَصة من طريقته العقلانية، النفعية والوطنية؛ لا بالطريقة العاطفية والانفعالية والعدمية التي تتسم بها الأقلام المؤيدة للثورة السورية، رغم كل شيء. وما يبعث على اعتزازه بدروسه هذه، انه سبق وأنذر مئات المرات، وعلى تلك الصفحات بالذات، انه على الثورة السورية ان لا تسعى الى التسلّح، وإلا هُزمت. كتابنا هؤلاء لم يروا في تعذيب وتطويق وتهجير أهل داريا إلا أمراً واحداً: خطأ العسْكرة في الثورة السورية.

عسْكرة سريعة، تحولت بنظرهم، وبغمْضة عين، إلى عسْكرة منظمة، غير شرعية وغير منطقية إلا في حالة واحدة، عندما يحمل السوري سلاحا "دفاعا عن نفسه أو أسرته"؛ في هذه الحالة فقط تسمى ثورة سلمية قادرة على إلحاق الهزيمة ببشار. ولكنها تسلحت، تلك الثورة، فانتصر عليها بشار منذ تلك اللحظة. فالنظام "لم ينتصر على داريا الآن، بل كان ذلك منذ خمس سنوات".

"السلاح الثوري" هو الذي ضرب داريا كما ضرب غيرها من المناطق التي احتضنت الثوار. منذ البداية، بشار منتصر. كما يرى بشار نفسه، يراه ناقدو العسْكرة الذين من هذا القبيل. والمتظاهرون السلميون ضد بشار لم يلِق بهم السلاح، لم يناسبهم لأنهم "فاشيون" مثل بشار: "ثقافتهم العنفية"، "معرفتهم النضالية (التي) تقتصر على الجهاد الديني"، إيمانهم "بإنتصار القوة على العقل"...  أما قوة بشار الأخرى فهي مواجهته "المسدس بالبندقية"، "الرشاش بالدبابة"، "المدفع بالطائرة".

فيما التدخل العسكري الخارجي المؤيد للنظام، من إيراني وروسي، جاء بناء على قانون سياسي معروف: وهو ان "السلاح الثوري يحتاج بالضرورة إلى تدويل الصراع". أكثر ما يضحك في هذه النصائح الرؤيوية للثوار السوريين، والتي لم تعد تجدي نفعا على كل حال، ولكنها لافتة بطرافتها... هي النصيحة التي يغدقها هذا الصنف من الكتاب على المتظاهرين الذين يتلقون العنف المسلح بأن يقتصر دفاعهم على أنفسهم أو عائلاتهم.

الخيال المحدود يصور الأشياء على "طبيعتها"، على طفوليتها، على سذاجتها.... وهو ليس معنيا أبداً بكيفية جلب هذا السلاح الفردي الدفاعي، ولا بفعاليته، ولا بكيفية تنظيم الدفاع عن النفس برشاش فردي وحسب، لا يعرف الجار واهل الحيّ او البلدة او القرية شيئا عنه؛ إذ يفترض الكاتب ضمناً ان فرداً واحداً مسالماً سوف يتسلح دفاعا عن نفسه، فيما الباقون كأنهم غير موجودين... التخبّط لا يقف عند هذا الحدّ. التناقض صارخ في أحكام ناقدينا الأفذاذ، ومنذ بداية قولهم، أو تكرار "فكرتهم": فاذا كان بشار قد ربح المعركة منذ اللحظة الأولى لعسكرة الثورة، وليس منذ اندلاع الثورة ضده... فلمَ الحاجة إلى حلفاء يساعدونه على قتل شعبه؟ وإذا كان لا يعتمد إلا على منطق القوة، باعتراف كتابنا، المعارضين المزيَّفين، فلماذا يأخذون على المنتفضين ضد بشار استعانتهم بمنطق القوة؟ ام انهم يعتقدون بأن نعوتهم السلبية السريعة والسطحية لنظام بشار سوف تحجب غايتهم العميقة في ذم الثورة لأنها تعسكرت؟ وإعفاء بشار من التجريم؟ والمجال مفتوح هنا للسؤال، وبكل موضوعية: هل تمكن بشار، بعد الدعم الإيراني والروسي، من الإنتصار على الشعب السوري؟ هل تمكن فعلا؟ فلسفة القوة التي يدافعون عنها والتي يأخذون على العسكرة تسلحها بها، تفضح نفسها بنفسها.

هذا النوع من النقد للعسكرة هو منطق القوة ذاته الذي يخفونه بقشرة سطحية رقيقة: انهم من عتاة المعجبين بالقوة السافرة الغاشمة! ولكن خلف هذه المَضْحَكة من "النقد"، هناك تصور ثابت لمعاني "الثورة"، يبطنه ويعلنه خصوصاً المعارضون الماركسيون اللينينيون، الموالون في شبه سريرتهم للنظام، والمحبّون للإستقرار الذي يبكون عليه اليوم.

بنظرهم لا تقوم ثورة من دون حزب ثوري جماهيري، لينيني، ومن دون أيديولوجيا ثورية، بقيادة بروليتارية وتحالف بين العمال والفلاحين بقيادة مثقفين ثوريين، وقيادة واحدة، كاريزماتية إن أمكن.

من الطبيعي، ضمن هذا التصور، أن لا تكون الثورة السورية شرعية، ان يتم إصطياد اخطائها، أن تتعزّز بهذه الاخطاء جرائم النظام المتوحش، وأن يكون الرجاء الأخير هو استعادة سوريا الأسد، أيام العمل الثوري المنظم والسلمي؛ الأيام الخوالي... يريد هؤلاء النقاد أن ننظر إلى الثورة وما تلاها، بأعين قصيرة، بمعادلات شكلية، بحدود ضيقة.

وكأن كل الذي صدر عنها كان معدّاً بعناية فائقة، بإعداد مسبق، بإرادة واضحة وقادرة. يريدون أن نصدق بأن الشعب السوري المنتفض "فاشيستي"، "مثل النظام"، وبأن الجهادية الإرهابية كانت من صنعه وحده، لأن جيناته هكذا... ولد هكذا وترعرع في كوكب آخر... من بين كل نقاد عسْكرة الثورة، يمكنكَ أن تميّز بين محبيها وكارهيها.

يكفي، كما في حالتنا مثلا، أن ناقدها لم يرَ في داريا سوى هزيمة للثورة وانتصاراً للنظام. وأن الإثنين متوقّعان منذ خمس سنوات .