السبت 2017/06/24

من ماضي حلب إلى حاضر درعا… “العبرة بالخواتيم”

لا يهمني كيف سقطت حلب.. أهي سقطت مرغمة بعد أن أُنهكت وأُبيدتْ من قبل النظام وحليفيه الروسي والإيراني، أو بتخاذل وتآمر محلي من قبل بعض قادة الفصائل، المهم في المحصّلة أنها سقطتْ واحتلتها قوات الاحتلال الروسي والمليشيات الأجنبية، وكانت خسارتنا آنذاك لا تُقدر بثمن، فما سُلبَ منا من أرضٍ لم يكن دمُ آلاف شهداء الذين حرروها قد جفّ بعد.

نعم لم يكن قد جف.. لقد فاض الحنين واستذكرتُ الأيام المعدودات من الفرح ونشوة الانتصار التي سبقت نهاية حلب في تلك المعركة الأسطورية أحد ألمع معارك القرن الحادي والعشرين.. "ملحمة حلب الكبرى" التي كسرت أغلال المدينة المحاصرة ففرحنا كثيراً حينها وملأنا الأرض شماتةً بروسيا وإيران والشبيحة ونظرائهم، لكنْ غاب عنا أن من يضحك كثيراً يبكي كثيراً، فنحن في تلك اللحظات لم نستطع أن نحافظ على ما سطرناه بدمنا وأذعنّا لمطالبِ الهدن وإسكات البنادق.. فما كان بعد ذلك إلا أنِ امتُصَّ هيجانُنا وخملتْ عزائمنا عن مواصلة المشوار، وتوسيعِ رقعة المناطق المحررة..  فسقطت المدينة في الطريقة الخبيثة التي اكتفى الجميع فيها بمتابعة عفاريت الشر كيف تآمروا وتعاضدوا لإفراغها من سكانها.

تعود اليوم إلى واجهة الأحداث مدينة درعا أحد قلاع الثورة أيضاً، وقد شهدت الأيام الماضية خسائر فادحة في صفوف قوات النظام والمليشيات الإيرانية التي تسانده في المعارك، فغرفة عمليات البنيان المرصوص لا تزال تمسك زمام المبادرة في المدينة من خلال معركة "الموت ولا المذلة" التي أطلقتها قبل نحو ثلاثة أشهر، وتقدمت فيها بحيي المنشية وسجنة، ثم ما لبثت أن توقفت وأصبحت تتصدى لمحاولات النظام في استرداد ما خسره بدعم روسي مكثف عبر حملة هستيرية من القصف الجنوني على المدينة.

دفع فشل وخيبة النظام التقدم بدرعا إلى إعلان روسيا ذلك بشكلٍ صريح، حيث اعترفت القناة المركزية لقاعدة حميميم العسكرية المحتلة أن الفشل يعود لما وصفته "سوء التنسيق القتالي" بين القوات المهاجمة على الأرض، وذلك على الرغم من دعم روسيا التي تدخلت غير آبهةٍ بكون درعا قد شملتْها اتفاقية تخفيف التصعيد، وكان لذلك صداه الإعلامي الكبير بين الأوساط الثورية التي فرحت بذلك، واحتفت بمعركة الموت ولا المذلة احتفاءاً مشابهاً للنصر الذي تحقق بمعركة ملحمة حلب الكبرى.

لكن ماذا حصل بعد ذلك.. الذي حصل هو أن روسيا طالبت بهدنة لمدة 48 ساعة، فاستجابت البنيان المرصوص لطلبها وبالفعل توقفت عن المعارك، لكنها أُخِذت على حين غِرة من قبل النظام بعملية كبيرة ليليةٍ حقق بها تقدمًا في كتيبة الدفاع الجوي غرب حي المنشية، وتواصلت المعارك بمحاولةٍ من النظام الوصول إلى الحدود مع الأردن، لكن غرفة البنيان المرصوص استردت جميع ما خسرته بعد معركة كبيرة قُتل وأُسر فيها العشرات من المليشيات الموالية.

هل زال الخطر عن درعا؟

أقول إنه واهم كل من يعتقد بذلك، فالنظام مؤخرا أصبح يعتمد سياسة جس النبض ومعرفة حجم القوى المقابلة والتكتيكات التي تتبعها، ومن الخطأ منحه مدة زمنية كبيرة يستجمع بها قواهُ ليعاود محاولات الهجوم والاقتحام، فذلك أكبر منزلق وقع به الثوار في مسيرة الثورة السورية، فبمثله سُلبتْ حلب والغوطة الغربية والقائمة تطول.. وذلك بسبب أن تلك المواقع وقعت فريسة الحصار البربري الذي لم يترك خياراً سوى التهجير.

الميزة التي تمتاز بها مدينة درعا هي أنها تقع في أقصى الجنوب، وموقعها يتيح للفصائل قلب الطاولة على النظام وجعله محاصَراً بدل مساعيه بعزل أحياء المدينة أو الوصول إلى الحدود الأردنية، وذلك الأمر ليس معجزة في لغة المعطيات،  بل إنه ممكن عبرَ السيطرة على بلدة تحظى بموقع استراتيجي في غاية الأهمية وهي خربة غزالة، فهي تقع شرق داعل وغرب علما المحررتين وبـ "اتصالهما" أو بـ "رصد" الأوتستراد الدولي القريب من خربة غزالة ناريا سيُطبقُ الحصارُ بشكلٍ تام على قوات النظام المتمركزة في مدينة درعا ما يعني قطع الإمدادات البرية بشكلٍ تام وإضعاف قوة النظام، وذلك لن يتم إلا بعمل عسكري كبير تشترك به جميع الفصائل إن كانت حقاً تسعى للحفاظ على المحرر، لا أن تركن إلى الهدن المؤقتة التي لا تخدم إلا شبيحة النظام ومرتزقته لتمنحهم وقتاً للراحة بعد أن يكونوا قد أُنهكوا، وحينها بإمكاننا أن نعد ذلك نصراً لا أن نواصلَ التطبيل والتزمير لمجرد صد هجمات أو استرداد نقاطٍ من نظامٍ أثبتت التجارب السابقة أن لديه شغفاً بالعودة إلى المواقع التي يضربُها.. و"يستردها" في نهاية المطاف كسيناريو فاجعة مدينة حلب التي ربح رهانها وحقق هو المغزى المراد من حكمة "العبرة بالخواتيم".. وكنا نحن كمن "جنى ثروة كبيرةً أول عمره.. وقعد على الحديدة آخره" !