السبت 2018/12/29

مناطق “ب ي د”.. من “أوجلان” إلى “خامنئي”؟!

في الوقت الذي قالت فيه مليشيات "ب ي د" إنها تتفاوض مع نظام الأسد بشأن مصير المناطق الواقعة تحت سيطرتها، أكد مسؤولون فيها أنهم توصّلوا إلى "اتفاق مبدئي" مع النظام، ليقوم باستلام مدينة منبج، استباقاً لعملية مرتقبة للجيش التركي وفصائل الجيش السوري الحر.

التطورات التي فرضت نفسها عقب قرار ترامب الانسحاب من سوريا، وضعت مليشيات "ب ي د" أمام خيارين لا ثالث لهما: مواجهة عملية عسكرية من قبل تركيا والجيش الحر، أو التفاوض مع نظام الأسد ليعود إلى مناطق شمال شرق سوريا، مقابل منح الأكراد حكماً شبه ذاتي. وإزاء هذه الخيارات يحاول "حزب الاتحاد الديمقراطي ب ي د"، وذراعه العسكرية "ب ك ك" فرض رؤية معينة على سكان المدن والقرى والبلدات في محافظات الرقة ودير الزور والحسكة وحلب، بأن هذه المناطق "جزء من الدولة السورية".

واقع الأمر في الحقيقة أثبت أن القرار ليس في يد المليشيات الكردية، وليس كذلك من صلاحيات نظام الأسد، بل إن الأمر قائم على تفاهمات تخص روسيا والولايات المتحدة وتركيا، وبغض النظر عن انعدام الجدوى الميدانية من دعوة "ب ي د" نظام الأسد للاستيلاء على منبج أو سواها من المدن، فإن فيها تعريض مئات الآلاف من سكان هذه المناطق، إلى خطر كبير لن تستطيع "ب ي د" حمايتهم منه.

واقع الأمر في الشمال الشرقي من سوريا:

من نافلة القول أن مناطق دير الزور والحسكة والرقة كانت في عهد الأسد من المناطق التي تعارف السوريون على تسميتها "مناطق مغضوباً عليها"، لا تتمتّع بأي مستوى لائق من النواحي الخِدمية والإدارية والاقتصادية. ومن نافلة القول أيضاً أن المكوّن الكرديّ -خصوصاً- تعرّض لعقود طويلة لسياسة قمعيّة من قِبل نظام الأسد، لم ينَل فيها بعض الأكراد أبسط حقوقهم المتعلقة بالجنسية وإثبات الهوية.

حاول بشار الأسد بدايات الثورة تحييد موقف الأكراد عبر وعود لم ينفِّذ منها شيئاً، إلى أن انسحب من منطقة الجزيرة السورية طواعية في العام 2013، مانحاً الحكم فيها لـ"حزب الاتحاد الديمقراطي"، الواجهة السورية لحزب العمال الكردستاني "ب ك ك". ومنذ ذلك الوقت دخلت المنطقة تحت نطاق ما عُرف لاحقاً باسم "الإدارة الذاتية"، التي قامت بإدارة تلك المناطق، مع الإبقاء على وجود رسمي محدود للدوائر التابعة لنظام الأسد في مدينتي الحسكة والقامشلي.

خلال مراحلَ متقطّعة دخلت المليشيات الكردية في معارك محدودة مع نظام الأسد، وغالباً ما كانت المواجهات تنتهي باتفاق لصالح "ب ي د"، بينما تناقضت مواقف النظام من المشروع الكردي، من اعتبار "الوحدات الكردية" جزءاً من قوات النظام ( وفقاً لما جاء على لسان مستشارة الأسد بثينة شعبان)، إلى اعتبار هذا المشروع وهماً لا يمكن القبول به ( وفقاً لما جاء على لسان وليد المعلم وبشار الجعفري).

ماذا تعني عودة النظام إلى شمال شرق سوريا:

ربما تدرك مليشيات "ب ي د" جيداً الثمن الذي سيدفعه الأهالي مع عودة نظام الأسد للسيطرة على مناطقهم، غير أنها لا تهتمّ كثيراً لذلك، طالما أن مصلحة السوريين آخر ما تفكّر به، وطالما أن ما يهمّها فقط هو ضرب الدولة التركية الجارة، ولو كان ذلك سيعرّض المنطقة لسيناريوهات كارثية.

جرّب السوريون مصير "التسويات والمصالحات" مع النظام في الجنوب السوري والغوطة الشرقية مثلاً.. فماذا كانت النتيجة؟

عقلية النظام الأمنية والانتقامية لا يمكن أن تتغيّر.. تحوّل سكّان تلك المناطق إلى معتقلين في سجن كبير، عمليات الدهم والاعتقال اليومية، وسَوق الشباب كالعبيد للتجنيد الإجباري، واغتيالات صامتة لقادة سابقين في الجيش الحر.. هل سيختلف الأمر كثيراً لو حصل هذا السيناريو شمال شرق سوريا؟

الواقع يقول إن ما سيحصل هو أعظم.. وأن النظام لن يترك سكان تلك المناطق حتى يذيقهم أنواع الانتقام والبطش.. كيف لا وقد عاشت تلك المناطق سنوات خارج سيطرته، وحرمته من الحصول على مواردها الاقتصادية المهمة (ولا سيما أنها تعد سلة الغذاء والطاقة في البلاد).

لن يقدّم النظام في حال عودته أي مشروع اقتصادي وإداري يخدم سكّان شمال شرق سوريا، في ظل انشغاله بتخديم المناطق الواقعة تحت سيطرته أصلاً في الجانب الغربي من البلاد، لن تكون مناطق شمال شرق سوريا سوى مستودع اقتصادي سيسعى النظام إلى تقوية اقتصاده عن طريقه، هذا بالإضافة إلى إطلاق يد إيران لتستكمل هناك مشروع "التشيّع" الذي بدأته في ريف دير الزور، وبدلاً من رفع صور "أوجلان" سنجد أعلام "حزب الله اللبناني، وصور الخميني وخامنئي.

البديل عن السيناريو "الشيطاني":

لا يمكن أن يكون تسليم شمال شرق سوريا هو الحل الأمثل لجلب الاستقرار هناك وفقاً لما ذكرنا، بل إن أهالي المناطق الواقعة تحت سيطرة "ب ي د" لا يرغبون بذلك أصلاً، وهم يعلمون جيداً الثمن الذي سيدفعونه في حال حصول ذلك، غير أنهم واقعون تحت سيطرة مليشيات لا تحمل أجندات وطنية، وطالما كانت علاقتها مع النظام محل تشكيك واسع.

ما ينبغي فعله اليوم هو الضغط الشعبي على مليشيات "ب ي د"، لإيقاف مفاوضاتها مع النظام، وعدم السماح لها بالحديث نيابة عن مئات الآلاف المعرضين لخطر العودة إلى قبضة الأسد.. سكان تلك المناطق بعربهم وأكرادهم وتركمانهم معارضون لنظام الأسد بالفطرة، فهو الذين سامهم خلال عقود ألوان التهميش والقمع، وهم كذلك أول من استجاب للثورة حين اندلاعها، إلى الوقت الذي جاء فيه "القنديليون" لسرقة الثورة والركوب على ظهرها خدمة لمشاريع "أسدية-أوجلانية" لا تلامس مأساتهم، ولا تخدم مطالبهم المشروعة، ولا يمكن أن ينسى السوريون المظاهرات التي خرجت في عامودا وكوباني والحسكة، تندّد بالأسد وتطالبه بالرحيل.

مصلحة السوريين اليوم لا يمكن أن تكون مع الطرف الذي قتلهم وهجّرهم ودمّر مدنهم وقراهم، وبناء على ذلك يستطيع العقلاء وأصحاب الحل والعقد في الشرق السوري ألا يفاوضوا الأسد، بل يفاوضون جيرانهم السوريين على الضفة الثانية من البلاد.. أن يفاوضوا المعارضة السورية بشقّيها العسكري والسياسي، ولنا أن نتخيل حجم القوة العسكرية والاقتصادية فيما لو توصلت المفاوضات إلى سيناريو يبعد الأسد عن المنطقة، ويجعلها تحت إدارة أهلها وسكانها الأصليين.. قد يبدو الأمر "حلماً وردياً"، غير أن حدوثه ليس صعباً مع وجود الإرادة الشعبية، والتفكير مليّاً بالعواقب.