الأحد 2016/05/29

مصر الهرم المقلوب (ميادين كامب ديفيد)

عندما سقط زين العابدين بن علي في تونس ، كانت النُّذُر تلوح في الأفق، وبدأ يتلقَّفُها الأرحبُ أفقا ، والأكثر ديناميكية ، والأدق تحليلا ، والأشد انتماء لهذا العصر ؛عصر التقنية ، والأفكار الخلاقة؛ التي تنشأ بطريقة الانشطار، الذي يصعب السيطرة عليه .

بعد هذا السقوط اجتمع القادة العرب في القاهرة ؛ للثرثرة في مؤتمر اقتصادي ، وكان المستشارون المعطوبون رؤية ومنهجا؛ قد أشاروا على المنظمين بضرورة إشراك الشباب في هذا المؤتمر ؛ فما كان منهم إلا أن طبقوا الفكرة ، ولكن بشكلها الأجوف بعد تفريغها من محتواها ، فكان الشاب الذي ألقى خطابا نَضِرَ البشرة ممتلئ البدن ، يرسل جسده إشارات كيميائية توحي بمكان سكنه ؛ ربما (garden city)، أو حي المعادي الراقي ، أو حي المهندسين ، ولم يتم استجلابه من شباب الأحياء البائسة ، التي تعتمل فيها استحقاقات الثورة والتغيير الحقيقي ؛ في ظل ربيع عربي سيجرف معه الحصا وكل الغثاء، الذي تم تجميعه في حقبة حكم العسكر ابتداء من النصف الثاني من القرن العشرين .

لم يمهل الزمن القادة العرب ، الذين اجتمعوا في هذا المؤتمر فسرعان ، ما اندلعت ثورة 25 يناير في مصر؛ بجموع استثنائية ، لم يسجل التاريخ شبيها لها، بعد اختراع آلة التصوير .

بدأت المؤامرات تحاك للثورة منذ لحظة انطلاقها ، من دوائر المخابرات العالمية؛ التي كانت شريكة في اتفاقية كامب ديفد ؛التي أعيد على أساسها وضع مصر على خريطة العالم ؛ وتمت إعادة هيكلة الجيش المصري، وإعادة بنائه بما يتوافق مع زمن الاستسلام ، وإخراج مصر من معادلة القرار في الشرق الأوسط ، وتحول الجيش المصري إلى شرطي مهمته تضليل الشعب المصري ، وكبح جماح طموحه في الريادة والسيادة ، وربما يكون العمل بهذه السياسة قد بدأ مبكرة قبل إقرار معاهدة كامب ديفيد ،ولكنه بدأ مع بدايات مشروع الاستسلام عام 1975 ، حيث خرجت جموع مصرية في تظاهرات كبيرة، سحقها أنور السادات بكل وحشية ، وقام بشيطنتها إعلاميا حيث سماها (انتفاضة الحرامية )، وقال كلمته المشهورة آنذاك ( اللي هيطلع بمظاهرة حنفرموا )، وبعد هلاك السادات ومجيء مبارك ظل الجيش يمارس الدور نفسه ، واصطدم مع الشارع سنة 1985 ، وتم سحق الاحتجاج بوحشية استالينية ، ذلك لأن الجموع لم تكن شبيهة بجموع الربيع العربي.

وبما أن الربيع العربي له شعاراته ، وأسبابه العميقة لتغيير الوقع؛ فقد تم التعامل معه بطريقة مختلفة من أجل تطويقه ، وإفراغه من محتواه ، وكانت أولى الخطوات من قبل الجيش المصري المبني في كامب ديفد :

الإيعاز لجهاز الشرطة بالانسحاب من الشوارع ،وإغراء المواطنين بالخروج وذلك لعدة أسباب :

أولا: كانت مؤسسة الجيش تتبرم من مشروع التوريث، الذي كان يسعى له حسني مبارك ، فكانت فرصة ذهبية للتخلص منه.

ثانيا : الحفاظ على جهاز الشرطة من التمزق؛ مما يصعِّب عملية إعادة تأهليه في المستقبل القريب جدا.

ثالثا: إظهار الجيش المصري بصورة مشرقة مشرِّفة بوصفه حاميا للشعب وثورته ومصطفا إلى جانب الحق والعدل ،وهذا ما كان؛ فصفق الجميع له ،وانطلت الحيلة حتى على إبليس
التمسك بحكم المرحلة الانتقالية ، أو ما سمي بمرحلة حكم المجلس العسكري،وذلك لإعادة ترتيب الأوراق الداخلية والخارجية والإطباق على كل مفاصل الدولة ، وأهمها الموارد المالية ؛ من خلال تهريب مليارات الدولارت إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، للتحكم بالاقتصاد المصري من الخارج .

أخذ الوقت الكافي لدراسة ظاهرة تحريك الحشود الشعبية ، وطريقة التعامل معها، وتحييد أصحاب الحراك الثوري الحقيقيين ، ونقل ملف التفاوض الثوري من يد الثوار إلى الأحزاب الكلاسيكية ، التي كانت شريكة في الحكم سابقا بنسب متفاوتة، ومخترقة من قبل جهاز المخابرات المصرية ؛كي يتم التحكم بأداء هذه الأحزاب و تطويق الثورة ، ومن ثم الانقضاض عليها .

إدخال مصر في حالة من الفوضى الأمنية المصطنعة ، والإشراف عليها بشكل ممنهج ، كي يزهد الناس بالثورة ويكفروا بها ، و يبدأوا المقارنة بينها وبين العهد الماضي ، مع خنق اقتصادي متعمد ورفع للأسعار، واصطناع إزمات تموينية هنا وهناك .

إيهام الناس بزمن جديد وفكر جديد وحريات جديدة وديمقراطية جديدة ، من خلال الإعلام ،واستثمار ذلك لصالح شيطنة الثورة ،عبر ضخ إعلامي مركز تشرف عليه مؤسسات أكاديمية خلطت من خلاله جميع الأوراق حتى أصبح المستمع للإعلام المصري ؛الذي سمي (إعلام الفلول )ينطبق عليه القول: لنبلونكم بفتنة تذر الحليم منكم حيران. وبدأ المجلس العسكري بامتصاص جذوة الثورة من الشارع المصري ، وذلك بتعيين عصام شرف الرجل الرخو المرتعش رئيسا للوزارة ، في زمن تضطرم النيران في أفئدة الشباب ، ؛فكان لوجود هذا الرجل على رأس الوزارة التي من المفترض أن تكون ثورية دورا سلبيا في تبريد الهمم ، وتشتيت الأذهان حول القضية المحورية ، وهي نقل مصر الدولة والمجتمع من ضفة التهميش السياسي ، والغيبوبة الفكرية، والانحطاط الاقتصادي والصناعي إلى ضفة النهضة التي تصنعها الثورة .

بعد الانتهاء من كل هذه الترتيبات، بدأ المشروع الديمقراطي الشكلي؛ الذي يستطيع الجيش التحكم به ، وتم إطلاق العملية السياسية الجديدة ، وكانت الانتخابات الرئاسية؛ التي تحكَّم الجيش بأسماء المرشحين لها ، فقد قام بإقصاء مرشح السلفيين حازم أبو إسماعيل بذريعة كون أمه تحمل جنسية أمريكية ، وهذا ما أثبتت الوقائع بطلانه ؛ حيث إن أمه تحمل إقامة في أمريكا وليس جنسية ، حيث كانت تعمل في العمل الدعوي هناك ، ورفض ترشيح المهندس خيرت الشاطر عن الأخوان المسلمين، وجعلهم يستبدلونه بمحمد مرسي ، ولم يسمح بترشيح أي من عناصر الثورة الجديدة ، وبعدها قام إعلام الفلول بشن حملة إعلامية ضد مرسي سميت حملة (الاستبن ) ؛أي البديل ؛لإظهاره بمظهر الضعيف ، وفرض رجالات من النظام السابق ؛ مثل عمرو موسى ، وأحمد شفيق ليوحي للجميع أن النظام السابق له أنصاره ومؤيدوه ، وقد بدا ذلك من نتائج الانتخابات التي جاءت متقاربة جدا بين شفيق ومرسي؛ ليخرج المتابع لها أن الشارع المصرع منقسم مناصفة بين النظام السابق وبين عهد الثورة الجديد، على الرغم من أن اللجنة التي أشرفت على الانتخابات هي نفسها التي أشرفت على انتخابات حسني مبارك السابقة التشريعية والرئاسية ، والتي كانت تزوِّر كل شيء ، وكان بمقدورها تزوير الانتخابات لصالح شفيق ، ولكنها أرادت زج الإخوان في الواجهة؛ كي يتم إحراق الإخوان شعبيا، حتى يظهروا بمظهر الفاشلين داخليا وخارجيا ، وهنا بدأ المشروع ،حيث تم استخدام خزينة المال المصري ،الذي تم تهريبه للإمارات ضد الاقتصاد المصري، وبدأت أزمة التموين والخبز والسولار ، وبدأ الوضع الأمني يترهل حيث انتشر البلطجية في كل مكان؛ يقتلون، ويخطفون، ويسرقون على مرأى من جهاز الشرطة ، الذي مازال في حيويته وقوته وبكامل كوادره، وترافق ذلك مع حملة إعلامية شعواء ضد الرئيس مرسي وجماعة الإخوان، الذين تم اتهامهم بكل هذه المشاكل على الرغم من أن الجيش هو المتحكم بالاقتصاد والأمن .

في كل هذا السيناريو الذي تم تنفيذه بدقة ،كان الأخوان المسلمون يقرأون الخارطة السياسية بشكل خاطئ ، حيث انطلت عليهم كل هذه المؤامرة، وتم استخدامهم بشكل رديء ، ووقعوا في أحابيل الجيش ، الذي نجح في إيهام الجميع أنه محايد في كل ما يحدث ، ووقع الأخوان المسلمون في كثير من الأخطاء ، وأهمها سياستهم الخارجية ، وخصوصا موقفهم من الثورة السورية ؛ حيث زار مرسي إيران، واستقبل أحمدي نجاد ، وزار روسيا، وصرح منها تصريحا غاية في الردة عن حالة الربيع العربي حيث قال : إن وجهة نظرنا حول الملف السوري تتوافق مع وجهة نظر روسيا . ولكن في الفترة الأخيرة بدأت تتضح أمام الأخوان طبيعة الورطة؛ التي جرهم إليها الجيش ، الذي كان يسمح بمرور السفن الروسية الداعمة للنظام السوري ، ويلصق التهمة بالإخوان الذين لاحول لهم و لا قوة .

استطاع جيش مصر جيش كامب ديفد إنجاز مهمته بتطويق الثورة وإجهاضها عبر إظهار حكم الإخوان بالفاشل على جميع الأصعدة ، وجيَّش الشارع البسيط عبر وسائل الإعلام ليكون مطلبه إعادة حكم العسكر، حيث إنهم أولى وأرحم ، وأكثر وطنية وديمقراطية من الحكام الجدد ، وبذلك تمت إعادة قلب الهرم ، وصار التحكم بمصير مصر بالقمة ؛التي تتحكم بكل شيء وتم إنهاء حكم القاعدة التي تستند عليها الدولة .، كل ذلك رُسِمَ حتى يتم وأد حكم الإسلاميين ، الذين كانوا أساسا في الربيع العربي، وبدأ التلويح بالإطاحة بحكم الإسلاميين في تونس ، ومن ثم نعود مرة أخرى إلى حكم الهُلام الذي ليس قوميا ولا يساريا ولا إسلاميا ، وإنما خليط من التجار والانتهازيين والقوادين ، الذين تم إنتاجهم في الوطن العربي كافة في حقبة كامب ديفد وما بعدها .