الأربعاء 2017/12/06

“متلازمة ستوكهولم” .. لماذا يتعاطف العرب مع جلاديهم ؟

عام 1973 سطت عصابة مسلحة على بنك في السويد، وقامت باحتجاز أربع رهائن (رجل وثلاث سيّدات) مدة ستة أيام، ومارست ضدهم ضغوطاً شتى للوصول إلى مبتغاها، ثم استطاع الأمن السيطرة على الموقف والقبض على العصابة.

المفاجئ أن الرهائن الأربع تعاطفوا مع أفراد العصابة، ورفضوا الشهادة ضدهم، بل إنهم ساعدوهم في جمع الأموال للازمة لتوفير دفاع قانوني عنهم أمام المحكمة، وهذا ما دفع خبراء علم النفس إلى اكتشاف ما بات يسمى لاحقاً "متلازمة استوكهولم" أو "التعاطف مع الجلاد"، والتي اعتُبِرت مرضاً نفسياً يقع فيه المريض تحت سطوة التعاطف مع الشخص الذي يضطهده دون تقديم مبررات مقنِعة.

كثيراً ما يدفعني التفكير إلى اعتبار معظم الشعب العربي مصاباً بمتلازمة استوكهولم، إما بطريقة تمثيلية بحتة أو بطريقة ناتجة عن حجم القهر والكبت والاضطهاد الذي يجعل صاحبه مداناً بالولاء بشكل تلقائي للحاكم الطاغية.

إذا دار الحديث عن ثلة من المتنفِّعين بنظام الطاغية أو ما يُعرفون بـ"المطبّلين" فلا يبدو الأمر مرَضياً بالمعنى المقصود لهذا المرَض، فهؤلاء يحصلون في غالب الأمر على امتيازاتٍ مادية ومعنوية تجعلهم يدافعون عن الطاغية ويتعاطفون ليس حبّاً به، بل تعلُّقاً بالامتيازات التي سيفقدونها حين زواله.

يدور الحديث في واقع الأمر على غالبية الشعب العربي - من غير فئة المتنفِّعين – الذين يرزحون تحت حكم ديكتاتوريات عسكرية أو مدنية تسلب حقوقهم وأموالهم وتعتبر البلاد مزرعة وساكنيها عبيداً مضطهدين وعمالاً مُطيعين لا حول لهم ولا قوة ولا رأي.

لا يمكن أن نجعل بلداً عربياً مثالاً على ذلك، فجميع البلاد الممتدة في هذه الرقعة البائسة من المحيط إلى الخليج، لم تستطع يوماً أن تشهد حاكماً عادلاً بالحدّ الأدنى، فبات مَثارُ التفضيل لا يتعلق بالعدل، بل يتعلق بكمية الظلم والقهر الممارَس على الشعب، فمن الممكن أن يقول مصري لسوري إن نظام مبارك أقل ظلماً من نظام حافظ الأسد، ومن الطبيعي جداً أن يقول سوداني لليبي إن نظام البشير أقل سطوةً من نظام القذافي ..وهكذا لا يكون التفاضُلُ بحجم العدل بل بتفاوت القهر والاضطهاد.

عاش العرب مع حُكامهم عقوداً طويلة، لا يعرفون سواهم، ولا يمجِّدون غيرهم، ولعل السوريين من أوائل العرب الذين أُصيبوا بالصدمة من وفاة الطاغية الأكبر حافظ الأسد عام 2000 ..كان الوقت عصراً حُزيرانياً هادئاً، أذاع التلفزيون السوري الخبر فإذا بالشوارع تخلو من البشر، الجميع متسمِّرون أمام الشاشة غيرَ مصدِّقين أن من أمضى ثلاثين عاماً بمثابة الإله بالنسبة لهم قد تُوفّي، وهل يموت حافظ الأسد ؟؟ سؤال دار على أذهان الملايين في سوريا ..ليس هذا موضوعَنا إذ يطول الحديث فيه، المهم هنا أن حافظ الأسد تحوّل بعد وفاته بهُنيهة من الزمن لدى البعض إلى "قائد استثنائي مُلهم"، و"رمز للوطنية".. بالمناسبة ..ليس هذا حديثَ الإعلام الرسمي أو الاجتماعات البعثية، بل هو رأي قال به أشخاص يُكنّون الكره والبغضاء لهذا الرجل الذي أوقف آلة الزمن في سوريا عند لحظة انقلابه على رفاقه وجلوسه على سُدّة الحكم.

على أيّة حال قد يعترض أحدهم على مثالي لأن حافظ الأسد تُوفّي على فراشه لا قتلاً ولا اغتيالاً ولا إعداماً، لكنه على أية حال طاغية متجبّر هلك بعد صراع مع مرض "سرطان الدم" فلماذا التعاطف؟

الجواب لدى السوريين بسيط ..لأن دائرة الحكم لم تغادر عائلة الأسد، إذ سرعان ما ترتَّب الأمر وتهيأ ليكون ابنه الأوسط بشار رئيساً بعد تغييرات فادحة في دستور البلاد، ولهذا لم يعش السوريون فرقاً كبيراً بين تسمية حافظ بـ"القائد المُفدّى"، و "القائد الخالد".

كان مشهد إعدام صدام حسين فجر يوم عيد الأضحى  الموافق 30 كانون الأول/ديسمبر 2006، نقطة البداية لرحيل حاكم عربي على غير فراش الموت التقليدي، شكَّل إعدام صدّام صدمة كبرى لدى غالبية العراقيين والشعب العربي، ولعل ظروف الغزو وأنه أعدم على يد الغزاة المحتلّين أظهر الرجل بمظهر البطل، ولعل القيمة المعنوية لإعدامه دفعت حتى أعداءه ومعارِضيه إلى التعاطف والبكاء عليه..وليس مثال أقرب هنا من الشاعر الشيعي "عباس جيجان" الذي هرب من صدام إلى هولندا لاجئاً سياسياً، ثم إنه رثاه بعدة قصائد، إحداها لا يمكنك حين سماعِها إلا أن تبكي على صدام حسين.

السؤال هنا .. ألم يكن صدام حسين ديكتاتوراً بنظر العراقيين ؟ ألم تمتلئ سجونه بآلاف المعارضين؟ ألم يقتل ويهجِّر عشرات الآلاف منهم؟  هل رثى عباس جيجان صدام حسين لأنه مصاب بمتلازمة استوكهولم ؟ أم إنه رثاه لخصوصية المرحلة التاريخية التي يظهر فيها الطاغية -مهما كان- خياراً أفضل من المحتل الأجنبي؟.. يستطيع الشاعر جيجان نفسه أن يجيب عن هذا التساؤل.

ربما يلاقي المثالان السابقان اعتراضاً لدى البعض، فحافظ الأسد تُوفّي حتفَ أنفه على فراش الموت، وصدام حسين قُتل على يد الغزاة فاستدعى قتلُه تعاطفاً واستقطاباً، ولا سيما أنه أول حاكم عربي تزيحه قوة أجنبية عن الحكم ثم تعتقله ثم تقتله.

المشهدان الأكثرُ وضوحاً عندنا يَظهران في مقتل معمّر القذافي وعلي عبد الله صالح، فالقذافي حكم ليبيا منذ 1969 إلى 2011 ..فحصل على أطول مدة يقضيها حاكم عربي على عرشه. 42 سنة اعتبر فيها القذافي ليبيا مُلكاً خاصاً له ولأولاده وسام أهلها القتل والحرب حين أعلنوا الثورة عليه، وكذلك علي عبد الله صالح الذي حكم 33 عاماً، ثم عاد بعد التنحي ليضع يده بيد الحوثيين ضد حكومة عبد ربه منصور هادي، ما أدخل البلاد في حرب جلبت الدمار والجوع وشتّى الأمراض والأوبئة الفتّاكة.

قُتل القذافي على يد الثوار في ليبيا، وأَعدم الحوثيون صالح، وبغض النظر عن وجود مؤيدين لكلا الطاغيتين فإن جمهوراً واسعاً أبدى مشاعر التعاطف معهما وبمجرد ظهور صورهما على الشاشة جثتين هامدتين تحوّلا إلى "ضحايا" وغابت صورتُهما كديكتاتورين لم تكن الدولة بالنسبة لهما سوى مجد شخصي آخر ما يراعى فيه هو مصلحة الشعب.

_ لماذا يتعاطف العرب مع طغاتهم؟         

لا بد من البحث وراء هذا السؤال؛ للوصول إلى الأسباب التي تدفع الشخص المضطهَد إلى التعاطف مع الجلاد الذي يضطهده ..كيف يعيش المواطن العربيّ في ظلّ حُكم الطاغية عشرات السنوات ثم إذا قُتل الطاغية أو هلك ينال التعاطف ممن اضطهدهم؟

يمكن للإجابة عن هذا السؤال وضع عدة اعتبارات منطقية تدفع بعضاً من الشعب العربي للتعاطف مع الطاغية بعد هلاكه بدلاً من اعتبار ذلك نتيجة منطقية تسير على سنن الكون الإلهية. ويمكن وضع التبريرات التالية:

1- الجانب العاطفي:

يمتاز الشعب العربي بأنه شعب عاطفي يعتمد على صوت العاطفة بشكل أكبر من الاعتماد على معطيات العقل والمنطق، ووفقاً لذلك فإن النظر إلى الطاغية لا يكون بعد موته على أنه حاكم سابق، بل على أنه إنسان أو مواطن لقي هذه النهاية، وبالتالي فإنه سينال تعاطفاً من جانب إنساني.

الإفراط في الجرعة العاطفية يمكن أن يوقع البعض في نطاق الخرافة أحياناً، وهذا بالضبط ما جعل بعض العراقيين يرى صورة صدام حسين ظاهرة في القمر بعد أيام من إعدامه.

2- الخوف من الطاغية بعد هلاكه:

يصحّ هذا التبرير حين يكون للحاكم الديكتاتور الهالك استمرار في السلطة عن طريق أولاده أو حلفائه أو جماعته، وحينئذ فلا يملك الشعب سوى أن يُظهر التعاطف مع الجلاد. ويبدو المثال في سوريا هو الأقرب بعد هلاك حافظ الأسد وحلول ابنه محله في الحكم.

3-انعدام الثقة بغير الطاغية والخوف من المجهول:

يصوّر الديكتاتور عادة لشعبه أنهم سيهلكون بدونه، وأنه حامي الحمى وقاهر الأعداء ولا استقرار أو نماء أو وجود للدولة بغيابه. هو فعلياً يملك زمام الجيش والاقتصاد والتعليم والمخابرات والتمثيل الخارجي وكل شيء، ما يولّد إحساساً حقيقياً لدى قسم كبير من الشعب بأن الحاكم حين يموت أو يُقتل سيأخذ بغيابه ملفات تتعلق بحياتهم ومعيشتهم، وهذا ما يؤدي إلى تعاطف ضمني من باب أن وجود الطاغية على علاته أهون من غيابه ومواجهة المجهول.

4-ارتباط شخص الطاغية بعدو يهدد الدولة :

إعدام الحوثيين لعلي عبد الله صالح مثلاً خلق تعاطفاً معه من زاوية أنه قُتل على يد الحوثيين، الذين وإن كانوا يمنيين إلا أنهم أذرع وبيادق بيد إيران التي تسعى إلى وضع يدها على اليمن وفصله عن محيطه العربيّ، وهذا ما يؤمّن لصالح مزيداً من التعاطف لدى اليمنيين الرافضين للوجود الإيراني في بلادهم.

والمثال الأوضح كذلك هو صدام حسين، الذي ارتبط اسمه بمعارك طويلة مع إيران، ويرى قسم كبير من العراقيين ومن عموم العرب أن إعدامه يشير إلى انتصار إيران في العراق وأنها وضعت يدها على بلد كان يَعُدُّ نفسه القلعة الشرقية في وجه الطموح الفارسي. ما جعل صدام حسين يتحول إلى "بطل قومي" لدى ملايين العرب الذين طغى على تفكيرهم ملف الصراع القومي، وغاب عن أذهانهم أن صدام في نهاية الأمر حاكم ديكتاتور بنظر شعبه على الأقل.

على أية حال ..قد يكون لدى كثير من العرب آراء مضادة لما ذكرته المقالة التي حاولت الوصول إلى أسباب التعاطف مع الجلاد بشكل منطقي غير مُسيّس، والتي حاولت كذلك أن تصل إلى نتيجة بخصوص "متلازمة ستوكهولم" التي ينال فيها الجلادُ تعاطفاً من ضحيته بشكل يخالف المنطق، مع التنويه إلى أن هذه القضية قد لا تنطبق على العرب وحدهم.