الجمعة 2016/09/09

غرباء بلا أوطان

لا تنظري بخوف.. فأنا معك يا صغيرتي .. سننجو بعون الله لكن انتبهي إلى أخيك الصغير حتى أعود بباقي إخوتك.. لا بدّ أنّ ثيابهم اتسخت كثيراً وهم راقدون تحت التراب، والآن سنتدبر للمرة الـ... أمر شراء غسالة جديدة، يلزمنا فقط بيت جديد وعمر جديد.

هذا ما صرّحت به عينا أحد الأحياء الناجين الذين خرجوا من تحت الأنقاض بعد قصف غادر لطيران شهريار سوريا على مدينة ألف ليلة وليلة.. وما أحرانا أن نسمّيها مدينة ألف شهيد وشهيد.

لم تعد تنفع الكلمات .. فالصمت أبلغ وقعاً من الكَلِمِ.. ومن قبل قال الطفل عمران آلاف الكلمات بعينيه، ووصل صوت صمته إلى ملايين البشر، فمنهم من قابل كلمات عينيه بكلمات من دموعه، ومنهم من سخر من تلك النظرة البريئة التي تحس أنها أذنبت عندما وجدت دماء على وجهها ظانّة أنها هي من تسبّبت به وستعاقب عليه إذا ما كشف أمرها.

أصبح حلم الأطفال في سوريا، أن يصبح لهم حلماً يعيشون لأجله كباقي أطفال العالم، لكن لا حلمَ بلا وطن، ولا وطنَ مع الاستبداد، فالناس أضحوا مشرّدين في كل بقاع العالم، بعد أن ضاقت بهم أرضهم فعملوا بقول الشاعر: "وإذا نبا بك منزل فتحوّلِ"، لكن لسان حالهم يقول :

العين بعد فراقها الوطنا       لا ساكناً عرفت ولا سكنا

سنون مضت من عهد الثورة في سوريا والناس بين حلّ وترحال، وبلد يستقبلهم وآخر يرحلون عنه، والحنين موصول أبداً لأول منزل.

سنون واللاجئون والمهاجرون يقاسون الأمرّين من عيشة غريبة وناس غرباء، لم يحاولوا حتى أن يضمدوا جراح المتألمين، بل طالبوهم بأن يتعلموا الطب ليداووا أنفسهم بأنفسهم، وأنّى للغريق في وسط هذا اللجّ الزاخر أن يجد ما يتعلّق به.
تقرير دولي حول عدد الأطفال النازحين في العالم قدر فيه العدد إلى نحو 50 مليون طفل، 28 مليوناً منهم هجّرتهم الحروب والنزاعات في بلدانهم.

التقرير الصادر عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة "اليونيسيف" ذكر أن هناك قرابة 10 ملايين طفل لاجئ، لم يتم البت في طلباتهم، كما أن عدد الأطفال الذين نزحوا داخل بلدانهم يقدر بنحو 17 مليون طفل.

أوصاف وتشبيهات لا تحصى والمصيبة واحدة، يبقى العالم يتفرّج عليها وكأنّ ما يحدث هو خارج الكوكب، مكتفين بتبيانات وإحصاءات لا تسمن ولا تغني من جوع.. فمن قائل إنّ : "ثلث الأطفال يعيشون خارج بلادهم" إلى قائل: "تضاعف عدد الأطفال اللاجئين" فمضيف أن "ثمن الأطفال لاجئون حول العالم" إلى أمثال هذه الجمل الباردة، التي تُعدّ في حدّ ذاتها لاجئة في عالم الكلمات.

دخول شهر الحج واقتراب العيد زاد من حنين السوريين إلى أوطانهم، داعين الله أن يزيل هذه الغمة عن بلادهم، ويعيدهم إليها وينصرهم على طاغية دمشق، الذي لا يفتأُ يصبّح الآمنين ويمسّيهم على مجازر يندى لها جبين الإنسانية.

إن وضع المهاجرين -وكيف أنّهم أينما ذهبوا فالعذاب وألم الفراق ملاحقهم – ذكّرني بقصة شبيهة للكاتب البريطاني ديفيد بادييل (the parent agency) وتعني (وكالة الابوين) يحكي فيها صاحبها قصة طفل مشاكس لا يحب والديه، تعرّض في إحدى المرات لحادث فقد فيه وعيه، ودخل في غيبوبة فرأى فيما يرى النائم أنه دخل مدينة غريبة يمكن للمرء فيها أن يختار والديه، ففرح فرحاً شديداً ما لبث بعدها أن اختار أبوين من الأغنياء، قاما على الفور بتلبية كل متطلباته ..

الذي لم يحسب له الطفل حساباً، أنّ هذين الأبوين كانا دائماً منشغلين بأعمالهما، فلم يهتمّا بالطفل قطّ.. حينها قرّر الصغير استبدالهما بآخرين رياضيين علّهما يكونان خيراً من سابقيهما، لكن للأسف فهذان الأبوان يحبّان الرياضة حباً شديداً، فأخذا يصحبان ابنهما إلى درس الرياضة الصباحية كل يوم، ويجبرانه على أن يركض 3 كلم يومياً فلم يعد يطيق ذلك ، فعزم مرة أخرى على استبدالهما بأبوين مشهورين تحفّ بهما الأضواء من كل مكان، ويالَسوءِ الأقدار فاختياره هذا المرة كان أشدّ خطأ وأفدح مصيبة، وسارت الأحداث بعكس ما يتمنّاه الطفل.. ففي غضون أسبوع غيّر الطفل عشرات الآباء من أشكال وبلدان ومهن مختلفة، لكنه في آخر الأمر عرف حقّ المعرفة أن أبويه الحقيقيين هما أفضل ما منّ الله به عليه في هذه الدنيا، حينها أفاق من غيبوبته نادماً على كل المتاعب التي تسبّب بها تجاههما، عاقداً العزم على برّهما والإحسان إليهما مدى الحياة .

هكذا هو حال النازحين المفارقين لأوطانهم، ففي كلّ مكان يحلّون فيه ويظنّون أنّ راحتهم وسعادتهم قاطنة داخله، يفاجَؤون بأنهم في وسط غريب، وينتابهم شعور بالوحدة والحنين لبلدهم.

شهدنا الناس تنزح في بداية الثورة السورية من حيّ إلى حيّ، فلم تستقرَّ أمورهم، ثم من مدينة إلى مدينة فزاد البعد وزاد معه الحنين، ثم لجؤوا إلى دول الجوار فإذا بهم يئنون ويشكون علّ أحدا يسيرُ بهم إلى بلد آخر ينسيهم مصابهم، ويخفّف عنهم عناء تلك السنين، وحينما حلّوا ديار الأمريكان والأوروبيين عضّوا أصابع الندم وعرفوا حق اليقين..

إنّ الغريب معذّب أبداً       إن حلّ لم ينعم وإن ظعنا

فمتى نُفيق من كابوس الأسد لنجد أنفسنا في حيّنا ووطننا، فيا أرض سوريا بوركت وبورك ترابك الطاهر الذي رُوي من دماء المجاهدين، حتى أزهر نصراً ويقيناً بالله أنّ النصر مع الصبر، وأن مع العسر يسراً.