الأحد 2018/10/07

عن اغتيال “خاشقجي”..وكيف تصبح القنصلية فرعاً أمنياً!

كنا نسمع ونردد كثيراً ما يسمى في الأدب العربي "اعتذاريات النابغة الذبياني" لملك المناذرة "النعمان بن المنذر"، وكيف كان الشاعر الكبير صاحب معلقة "يا دار ميّة.." يتنصّل من ذنوبه ويلوذ بمشاعر الخوف من النعمان علّها تشفع له، بعد أن مدح الغساسنة خصوم المناذرة التقليديين.

"النعمان بن المنذر" ليس سوى صورة من صور الطغاة التي نراها اليوم في كل بقعة من هذا السجن الكبير الممتد من المحيط إلى الخليج، والنابغة ليس إلا المواطن العربي الذي فرض عليه التاريخ والجغرافيا والظروف أن يعيش تحت وطأة طاغية كالنعمان بن المنذر.

كان النابغة يشبهنا كثيراً.. ولا سيما في إحساسه أن الطاغية الذي يلاحقه قادر على الوصول إليه مهما ابتعدت المسافات، حين يقول:

  فإنك كالليل الذي هو مُدرِكي     وإن خِلتُ أن المنتأى عنك واسعُ

نعم.. الطغاة في الجاهلية كانوا كالليل الذي يلاحق مطلوبيهم، على الرغم من عدم وجود المخابرات ووسائل الاتصال والجواسيس والقتلة المأجورين، فكيف إذا كان هذا الطاغية يمتلك كل هذه الأدوات؟؟.. لا شك أن طغاة اليوم أعادوا الجاهلية سيرتها الأولى، بل إنهم يسيرون بهذا العالم نحو هاوية كبيرة لن يكونوا هم بالتأكيد ناجين منها.

الصحفي السعودي المغدور "جمال خاشقجي" كان في خوفه يشبه النابغة الذبياني كذلك، فرّ من مملكة الخوف لكنه لم يقدّم نفسه معارضاً، هو بالتأكيد يعرف أن "النعمان" الذي يلاحقه قادر على الوصول إليه بالمال القذر، الذي جعل صبياً أخرق كمحمد بن سلمان حديث الأخبار والصحافة العربية والعالمية. كان "خاشقجي" يقدّم نفسه كمحب للسعودية، وناصح لولاة أمرها، لكن هذا لم يشفع له، فطغاة القرن الحادي والعشرين قادرون على الوصول إلى فريستهم بشكل أسرع بالتأكيد من وصول "النعمان بن المنذر" إلى مطلوبيه، كيف لا وثمة شيء في هذا الوجود اسمه "دونالد ترامب" ؟؟

بعد ساعات على ترجيح السلطات التركية أن "خاشقجي" قُتل داخل قنصلية بلاده، لا تزال حيثيات الجريمة غامضة وبانتظار كشف مزيد من الملابسات، لكني هنا أسأل كملايين غيري.. ما فائدة التحقيقات وكشف الملابسات؟ النتيجة أن الرجل قُتل، وأن من يطارده استطاع الظفَر به وتصفيته دون أي حساب لسيادة الدولة التي جرت فيها الجريمة. ما فائدة التحقيقات إذا كان وجه الطغاة اليوم يبتسم للدماء، ولسان حاله يقول: نحن كالموت ندرككم أينما كنتم!

الحقيقة أن هذا العالم المليء بالشعارات والمؤتمرات ومقومات الحضارة بات سجناً كبيراً لكل من قرر أن يغرد خارج السرب، ويفكر خارج صندوق الحكام الطغاة، والمعضلة أن أصحاب الرأي الحر والقلم الحر لم تعد مشكلتهم في معتقلات أوطانهم، إذ يتحوّل العالم كله إلى معتقل واسع، تلاحق يد الطاغية فيه مطلوبيه ولو خرجوا من بلادهم، لتصبح قنصليةُ الوطن في بلد المهجر فرعاً أمنياً يُعتقَل فيه الأحرار ويُعذّبون ويُقتَلون.