الجمعة 2021/07/09

عقلنة العنف في الثورة السورية

(لا تدع العنف يسيطر عليك.. سيطر عليه بعقلنته وترشيده)

د. عبد الحميد عكيل العواك

دكتوراه في القانون الدستوري

من يؤيدون العنف في الثورة السورية ليسوا كتلة واحدة متشابهة، إذ منهم من انخرط بالعنف الثوري، لذلك تراه مدافعاً عنه، وقسم آخر لم يشترك بالعنف الثوري، ويأتي موقفهم من باب التوصيف أكثر ممَّا هو تأييد، وقسم ثالث يرونه ضرورة تستلزمها الثورات، وهو عندهم الخيار الوحيد لسقوط أنظمة الاستبداد.

من يرى في العنف ضرورة للثورة السورية، بالتأكيد هو ليس مع كل ما حدث من عنف على مدار عشر سنوات، وليس هو ضد الخيارات الأخرى المناهضة للعنف؛ لأن العنف الثوري بالعادة يؤدي إلى منزلقات، إذ إن الحركة الثورية مُعرَّضة لأخطار إساءة استعمال العنف، وكل النتائج السلبية المترتبة على ذلك، إذا لم يكن لديها نظرية تعرف بواسطتها متى تستعمل العنف، وضد من، وبأي مقدار.

ماهية العنف الثوري

عقلنة (العنف الثوري) تنطلق خطواتها الأولى من التعرف عليه، لأننا لا نستطيع أن نضع حدودًا لأمر ما دون التعرف عليه، ولأن العنف الثوري هو جزء من العنف السياسي ويدور في فلكه، لذلك يجب أن نتعرف على العنف السياسي، ومتى يكون مُعقلناً، وأين يخرج من عقلانيته، ومتى؟

البعض عرَّف العنف السياسي بأنه: "كل عمل من أعمال الخروج عن النظام، أو التدمير أو الإصابة تكون آثاره ومحله واختيار أهداف ضحاياه وظروف تنفيذه ذات مدلول سياسي."

وقد تعددت وتنوعت تعاريف العنف السياسي، لكن هناك شبه اتفاق بين الجميع، على أن العنف يصبح سياسياً عندما تكون أهدافه أو دوافعه سياسية.

والعنف السياسي لا يأتي في نمط واحد، وله أنماط متعددة، وأشكال متنوعة، وأحجام متباينة، وما يهمنا هو العنف السياسي العقلاني أو الرشيد وهو أكثر الأنماط نضجاً؛ لأنه يحتوي إطاراً واضحاً ويحتوي بداخلـه علـى الأهـداف والوسـائل المحـددة، ويكـون المشـاركون في هــذا الــنمط عــادة علــى وعــي كامــل بهــذه الأحــداث، لذلك تراهم يعزفون عادة عن الاشتراك في أحداث شغب غير مسؤولة.

ويثور عادة هذا النمط لأسباب موضوعية واضحة، مثل الاعتقال التعسفي، وغياب الحقوق والحريات، وانتشار الفساد السياسي والاقتصادي، وغيرها من الأسباب التي تمتاز بالوضوح، لذلك تأتي المطالب واضحة ومحددة تلبي حاجة القائمين به في القضاء على أسبابه.

لذلك حتى نعقلن العنف الثوري يجب أن نبقيه في دائرة العنف السياسي، وضمن نمط العقلاني والرشيد.

دائرة العنف الثوري العقلاني

إذا كانت الثورة قد سارت في طريق العنف مجبرة كضرورة مُلجِئة، فيجب أن يبقى العنف مستخدماً في مواجهة من أنتجه (السلطة)، وألَّا ينحرف عن هدفه.

العنـف الثوري يـدور حـول السـلطة بمعـنى أنه عنف يتعلق في جوهره بالسـلطة ورموزهـا، لذلك أي عنف يوجَّه خارج دائرة الصراع مع السلطة هو عنف لا يمت للثورة ولا للسياسة بصلة.

وفي هذا الإطار يميز (العنف الرشيد) ما بين الدولة ككيان سياسي قائم على مؤسسات وبنية تحتية وقوانين ناظمة لعلاقات الأفراد، وبين النظام السياسي لمستبد بممارساته ورموزه وفساده.

فيعمل على استهداف الثاني وكل ما يتعلق به، ويبتعد عن أي ممارسة تمس الدولة ومؤسساتها لأنها ملك للشعب وليست ملك للحاكم، ويبقي القوانين غير المتعارضة مع حقوق وحريات الإنسان، لأنه (العنف الثوري) بناء وأسمى أنواع البناء تنظيم علاقات المواطنين بقوانين يرتضونها.

هدف العنف الثوري

توصيف العنف الثوري وتفسيره لا يبرر أي انحراف في بوصلته، سواء لجهة الوسيلة أو الغاية، فهو يمتلك المشروعية إذا ما كان في مواجهة عنف السلطة، وفاقد للمشروعية وغير مبرر أخلاقياً ولا دينياً ولا قانونياً إذا كان في مواجهة الناس العاديين.

وهـو يختلـف عـن أغلـب الأنـواع الأخـرى مـن العنـف، حيـث يتمـايز فيهـا بوضـوح دور الضـحية عن دور المعتدي، فيجب أن يبقى العنف الثوري في إطار الضحية التي تدفع عن نفسها العنف ولا يتحول عنفها إلى عنف معتدي ابتداء.

ولأن العنـف الثوري يتميـز بالإعلانيـة، ذلـك أن أطـرافه يتسارعون للإعلان عن مسؤوليتهم عن أفعالهم، لاعتقادهم بأن فعلهم (العنيف) يخدم ثورتهم، لذلك من الطبيعي أن يخرج عن دائرة العنف الثوري جميع الأعمال المتسمة بالعنف ويخجل من قام بها عن الإعلان عنها مثل جرائم الخطف، والاغتيال لشخصيات مدنية، والاستيلاء على أموال الغير.

وبشكل عام كل فعل تستحي أن تعلن عنه هو خارج دائرة الثورة ويدور في دائرة المنفعة الشخصية القائمة على الانتهازية.

العنف الثوري والإرهاب

تعمل سلطة الاستبداد المعاصرة منذ اللحظة الأولى لإعلان الثورة، وقبل قيامها بأي فعل يتسم بالعنف، على وصمها بأنها حركة إرهابية، وهذه النقطة أخطر ما يتهدد العنف الثوري.

لذلك على الثوار أن يميزوا عنفهم الثوري عن الإرهاب، وإلا فإن الثورة ستجر نفسها إلى مستنقع تنعزل فيه عن الداخل؛ لأن استخدام العنف يترك جروحاً في النفس البشرية ويولد انفعالات تستثير الكرامة والغريزة الطبيعية للدفاع عن النفس.

لذلك يجب أن يبقى العنف الثوري في إطاره العام في خدمة الثورة بمختلف توجهاتها الفكرية والأيديولوجية، يعبِّر عن الثورة في تنوعها واختلافها وتفرعاتها، بمعنى أكثر دقة ألَّا يتبنى من يقومون بالعنف أيديولوجية معينة، سواء كانت يمينية متطرفة أو يسارية راديكالية، ويحرصون على رفع شعارات الثورة في شكلها العام؛ لأن أدلجة العنف يعني خروج الثورة عن هدفها العام، وهو إسقاط النظام الاستبدادي وإحلال محله نظاماً يحترم الإنسان وحقوقه وحرياته، وهذا الخروج يُحدث ضرراً بالغاً في الثورة على الصعيد الذاتي والداخلي والخارجي.

على الصعيد الذاتي يحدث ضرراً على الأيديولوجية التي تم تبنيها من قبل العنف الثوري، وعلى الصعيد الداخلي يحدث انقساماً بين الثوار قبل أوانه وتشرذماً إلى مجموعات متباينة ومختلفة ومتصارعة، وعلى الصعيد الخارجي يُؤلِّب كل دولة معادية لتلك الأيديولوجية التي تم تبنيها، وبالتالي تتخذ موقفاً عدائياً ضد الثورة.

إذاً أدلجة العنف بصبغة معينة يؤدي إلى ضرر مباشر على الأيديولوجية المتبناة وانقسامات سابقة لأوانها تخدم النظام وكسب أعداء مجاناً من الخارج.

العنف الثوري والعدالة القانونية

أخطر ما يحدث للعنف هو ابتعاده عن وضع ضوابط قانونية لحدوده، فلا يتخطاها، وتحاسب الحركة الثورية من يتعداها.

وهذا يطرح تساؤلاً: كيف يستقيم عنف ثوري قائم على ردة فعل غير محسوبة ولا متوازنة مع إيجاد قاعدة قانونية تتطلب بيئة مستقرة وهادئة؟

يقصد بالنظام القانوني هنا بأنه نظام عام ينظم السلوك الثوري بصيغة الإلزام، ويكون المصدر المادي له مبادئ العدالة والإنصاف، ولا يفترض به التقنين، لكن ميثاق شرف ثوري ضروري لثورة تبحث عن كرامة الإنسان.

يجب منذ البدء تطبيق العدالة القانونية والابتعاد ما أمكن عن العدالة الثورية التي اكتوى بنارها السوريون منذ عام 1963، إذ تحت هذا المصطلح حدثت جميع انتهاكات حقوق الإنسان وأُهدرت حرياته على ذلك المذبح.

إن تحقيق العدالة الثورية لا يكون إلا ببناء المجتمع الجديد، وليس باستعمال العنف ضد الطبقات التي استخدمته في السابق ضدها، العدالة الثورية بمقدار ما تتطابق مع العدالة القانونية شكلاً وموضوعاً تقترب من العدالة، وبمقدار ما تلجأ للعنف كوسيلة للانتقام بحجة تحقيق العدالة الثورية بمقدار ما تبتعد عن العدالة الحقيقية.

إن قانون العين بالعين، لا يصلح أن يُطبق في العمل الثوري، فالثورة ليست عملية انتقام، بل بناء مجتمع جديد تتحقق فيه العدالة بشكلها الاعتباري.

وأخيراً إن التركيز في تعريف الثورة على التغيير وإهمال الوسيلة يدخل كثير من التطورات المفاجأة في المجتمعات تحت مسمى ثورة، وإن الاقتصار بالتعريف على العنف دون التغيير الجذري يدخل العنف العسكري الذي تقوم به أقلية للاستيلاء على السلطة في مفهوم الثورة.

وكلتا الحالين يجانبان الحقيقة، لذلك لا يمكننا الحديث عن الثورة إلا حين يحدث التغيير ويكون بمعنى بداية جديدة، ويهدف إلى التحرر من الاضطهاد وتكوين الحرية، لذلك يجب أن يتم تعريف الثورة بالنظر إلى الوسيلة، والغاية، والأداة الفاعلة، التي تقوم بها وهي الإنسان.

العنف الذي غايته توطيد الثورة دون تطبيق العدالة خطأ فادح، ينقل الثورة إلى دائرة الاستبداد الذي حاربته، وينزع الصفة الثورية عن الثوار ويساويهم مع أزلام النظام المستبد.