الخميس 2018/06/14

صراع بين سجّان ودمعة سجين في ليلة عيد الفطر

في أحد الأماكن بسوريا وفي سجنٍ من سجون طاغية العصر تحت الأرض بطابقين أو ثلاثة أو ربما أربعة أو يزيد..

يعيش بقايا إنسان وحيداً في زنزانةٍ لم ير ضوء شمسٍ أو يشم هواءً نقياً منذ شهور وربما سنوات.. ولم ير من الكهرباء إلا ما كان من أسلاكها متوجهاً نحو جسده الهش تنفضه من بين يديه ومن خلفه فيتقلَّب عن اليمين وعن الشمال، ولم يتعامل مع أحدٍ من البشر إلا مع من اعتاد على أن يعْصِبَ عينيه قبل أن يُصبّحَهُ بتعذيب وبطش ويمسّيه بضربٍ يجعله يئنُ ليصل صراخه إلى زنانين الموت من حوله، حتى بات لدى ذاك السجين المكبل شبه يقين أن هناك وحوشاً متنكرة بزي بشر تعيش في هذا العالم الذي نسيه يعيش في غيابات السجون المظلمة أياماً طوالاً لا يدري كم لبث فيها من الأيام والسنين .

في زنزانته مأكلُه وأيٌ مأكلٍ سوى ما يبقيه على قيد حياةٍ لم يعد يطيق لها الاستمرار وفي تلك الزنزانة مرحاضه وعلى جدرانها بقعٌ من دمائه ودماء من قضى نحبه من قبله ممن سيقوا أفواجاً إلى هنا.. اعتاد على الخروج من تلك الحفرة الحقيرة التي تفوح منها رائحة الموت مثقلاً بالسلاسل والأصفاد صبيحة كل يوم ليمضي إلى سجّانه، فيتفننُّ هذا الزومبي المتوحش بطرق تعذيبه وقهره وقمعه، فتارةً يضربه بالحديد، وتارة يُعلِّقه كما تعلق الخراف بعيد ذبحها، وتارة يُغرقه ببرميل ماءٍ ثم يخرجه ليس لينتزع منه اعترافاً إنما لغرض التسلية ودفعه إلى البكاء والاسترحام، فلا تنزل لهذا المعتقل دمعة أو يطلب استجداء وكأن إرادته انتصرت على سجانه  رغم تفاوت حال كل منهما، هذا يُعذّبُ ومثلُهُ الكثيرُ من شبيحة الأسد الذين أدمنوا سلخ البشر وتشويههم كمن أدمن تعاطي المخدرات، وباتت لديهم عادة لا تختلف عن عادة الأكل والشرب.. وذاك يتعذبُ لا لشيء إنما لأنه سجين كلمة ورأي لا سجين جرم.

عشية ليلةٍ لا تختلف بالنسبة للمعتقل عن غيرها من الليالي يُخرِجُ سجّانٌ سجينه فينهال عليه قتلاً بعيدَ ساعاتٍ من عملية تعذيب أخرى، يتساءل المعتقل للحظات قصيرة جداً لماذا هذا التوقيت غير الاعتيادي فهذا ليس وقت تعذيبي وإذلالي ؟ ، ما يلبث أن ينتهي من التساؤل حتى تعود به الذاكرة إلى الوراء قليلاً فيتذكر أن حدثاً مثل هذا يمر عليه في كل عام مرتين، فيدرك أنه يعيش في وقفةِ عيد الفطر وأن ما مر عليه من الأيام كانت لشهر رمضان لكنه لا يدري أنها كانت لرمضان ، فسجانُهُ اعتاد أن يخرجه في وقفةِ كلٍ عيد ليعذبه وينكّل به أشد تنكيل ويسبه ويسب خالقه بأقذع الألفاظ، ويقول له بكل وقاحة "هذه عيديتك"، وهنا يذهب خاطر المعتقل بعيداً إلى أمه وأهله وخلانه تسرح به الذاكرة إلى مسجده الذي كان يكبّر فيه تكبيرات العيد في مثل هذه اللحظات، وإلى بيته حيثُ رائحة ما كانت تجهزُ أمه من حلويات مخصصة لهذا الوقت، فلا يَعُدْ الضربُ يُجدي معه ولا يشعر حتى أنه يُضرب أو يُعذَّب وكأن جسده مات سريرياً أو كأنه يستشعر قوله تعالى"قلنا يانار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم".

لكن فجأةً تسقط دمعةٌ منه ليس للتوجع من شدة الضرب بل لتذكره أن أمه كانت تترقب خروجه في هذا اليوم الذي اعتاد فيه نظام العصابة الأسدية على أن يصدر إشاعاتٍ تروجُ لخروج المعتقلين كرماً من سيادته بمناسبة قدوم أحد العيدين، فيبكي لعلمه أن أزمة أمه ستتع ووجْدُها سيزداد وحزنها سيكون حزنين، الأول لعدم خروجه واكتمال فرحة العيد معها وبين أهله وأصحابه والثاني خيبة أملها من هذه الإشاعة التي أحيت فيها أملاً زائفاً وخدعتها مرة جديدة.. فيسخَرُ السجانُ من دمعة سجينه ويظن أنه هزمه ولا يدري أن دمعته هذه لم تنزل بسبب الاعتداء الوحشي المتجدد عليه، بل لذكراه حال أمه وأهله في مثل هذه الليلة المظلمة كيف يعيشون ترقباً ويمنون النفس بأن يصدر من اعتقل ابنهم ونكّل به طوال سنوات عفواً عنه فلا يرون إلا عفواً عن قاتلٍ أو مجرم وقائد عصابة.