الخميس 2016/02/11

سوريا و الأسئلة الثلاثة

تتبدل الأزمنة ، فتتغير أسئلتها الوجودية ، قبل الخامس عشر من آذار 2011 م ، كانت أسئلة السوريين تتمحور حول أمور المعاش ، هل وجدت وظيفة، متى تصرف الدولة الراتب ؟ هل سيصرفون لنا منحة مالية ؟ كيف نستطيع السفر إلى أوروبا أو الخليج ،والهروب من هذا الجحيم الوطني الرائع ؟

أطل علينا زمان جديد، جرف معه كلَّ شيء، وجرف من يخترعون الحالةَ التي تخلقُ الأسئلةَ.

في هذا الطوفان العظيم ،تصدَّرت المشهدَ السياسي والحياتي في سوريا ثلاثةُ أسئلة ، قفزت إلى الواجهة تباعاً، ولا يمكن أن يتقدَّم أحدُها الآخر ؛لأنها مرتبطة بتسلسل منطقي لا يمكن العبثُ به، ولأن الإجابةَ عن السابق تخلقُ اللاحقَ.

السؤال الأول: طُرح َمع بداية الثورة في شهر آذار هل سيسقط النظام ؟

طرُحَ هذا السؤالُ من قبل الجميع ،العامةِ والخاصةِ ،العربِ والعجم الأعداء والأصدقاء، وكان الجميع يراقبون الحراك، الذي انطلق من درعا ،يراقبون شعاراته، ويشككون في قدرة هذه المحافظة النائية عن قلبِ الدولةِ أن تُحدَث تغييراً نوعياً في مستقبل دولةٍ كان لدمشقَ وحلبَ في القرن العشرين السهمُ العظيمُ في تغيير المعادلة السياسية، وحتى مع انتقال العدوى الثورية إلى الساحل السوري ، مُمَّثلا باللاذقيةِ ومدينةِ بانياس ، ومن ثَّمَّ عودته جنوباً باتجاه العاصمةِ إلى دوما ومعضمية الشام ، كان الجميع يشكِّكون في قدرة هذا النمطِ من الحراكِ على تتغيرِ هذا الواقع، وفي كثيرٍ من الأحيان كانوا يشككون بوجوده أصلاً ، حيث إن كثيراً من القنوات الإعلامية كانت ترفضُ التغطيةَ والنقلَ، بل كانت تلعبُ دوراً في تكذيب رواية الثوار والترويج لرواية النظام .

هذه القنواتُ التي سنراها لاحقاً تتبنَّى وجهةَ نظرِ الثوار ،ويسمِّيها النظامُ القنوات التحريضية المشاركة في المؤامرة الكونية ، وخصوصا مع الرد الهمجي الذي قابلَ به النظامُ هذه المناطق ،والتي حاصر فيها حليب الأطفال، ولكنَّ زحْفَ التمرُّد ِبدأ ينتقلُ شرقا وغربا وشمالا وجنوبا ،فرأينا دخولَ حمصَ المدوي واعتصام ساحة الساعة في الشهر الرابع – نيسان ، 2011واشتعال أرياف دمشق وعموم أرياف درعا، ودخول محافظة إدلب على خارطة التظاهرات ، هذه المحافظة التي وضعت نهايةً للسؤالِ الأول ليبدأ السؤال الثاني .

السؤال الثاني الذي صعد إلى الواجهة ، كان سببه التطورات الموضوعية في إدلب ،وتحديداً مدينة جسر الشغور ،وانشقاق المقدم حسين هرموش عن الجيش السوري النظامي ،مع مجموعة من الجنود ،واشتباكهم مع العناصر الأمنية والشبيحة وقتلهم أعداداً منهم ، مما فتحَ بابَ الانشقاقِ على مصراعيه أمام كثيرٍ من الضباط والعناصر ، وكانت ضربةً قاصمة وُجِّهت للجيش السوري العقائدي ، وكانت هذه الانشقاقاتُ مؤشراً خطيراً على انهيار هذه المؤسسة العسكرية ذاتِ القوانينِ الصارمة ،والتي طالما ضُرِبَ المثلُ بقسوتها في تطبيق القوانين في حقِّ المنتسبين لها، على الرغمِ من المحاولاتِ المحمومةِ من كثير من المراقبينَ والخبراء التهوين من شأن هذا الانشقاقِ واعتباره عملاً معزولاً لن يكونَ له أثرٌ جَدُّ مُهمٍ في تطورِ سياقِ الأحداثِ .

كانت هذه الأحداثُ في الشهر الخامس أيار 2011، وهنا بدأت مرحلةٌ جديدةٌ ...لينهضَ سؤالٌ جديدٌ وهو كيف سيسقطُ النظام ؟ بعد أن توصلنا إلى يقين بأنه سيسقط .

إذاً السؤال الثاني هو كيف سيسقط النظام ؟ والمراقب المدقق لهذه الفترة يجد عدةَ تطورات حصلت ، منها السياسي ، فقد بدأ المجتمع الدولي يُدينُ النظامَ السوري ، ويتهمهُ بأنه ساقطٌ أخلاقيا ، وصدرت عقوباتٌ سياسية واقتصادية بحق النخبة الحاكمة في سوريا من عسكريين وأمنيين وتجار، وشملت معهم رأسَ النظام بشار الأسد ، والملفت للنظر في هذه المرحلة هو تصدي تركيا للملف السوري ابتداءً من إيوائها للاجئين وبعضِ المنشقين .

فقد ظهر أردوغان في عدة مناسباتٍ متوعداً الساسة السوريين بأنه لن يصمت حيالَ ما يجري في سوريا ،وبدأ السجالُ الكلامي بين دمشقَ وأنقرةَ ، انتهى بزيارة وزير الخارجية أحمد داود أوغلو إلى دمشقَ في الشهر السابعِ بعد أن جاء ليقدمَ نصائحَ للنظام السوري، الذي قرّرَ صمَّ أذنيه ، فكان الفراقُ بين تركيا والنظام السوري، وهو فراقٌ لا لقاءَ بعدَه ،  بعد عَقْدٍ من العسلِ السياسي.

والجديرُ ذكرُهُ هنا بَدْء ظهورِ أثر العقوبات الاقتصادية على النظام ، وانتشار المظاهرات طولًا وعرضاً ،حتى تحولت حماة ودير الزور إلى مركز تظاهر ضخم ضمَّ مئات الآلاف من المتظاهرين، أوقفَ النظام زخمها من خلال اجتياحِ هذه المدن بالدبابات، وظلت المعركةُ بين الشعب الثائر والنظام سجالاً يوثِّقُها الإعلامُ الذي نقلَ صوراً مروِّعة عمَّا يحدث في سوريا في تطور مُلفتٍ لأداءِ الناشطين، من حيث المهنيةُ والتقنيةُ التي يستخدمونها ،وانتشار شبكة مراسلين للثوار في طول البلاد وعرضها.

والجانبُ الإعلامي بتصوري هو ما يمِّيزُ مرحلةَ السؤال الثاني، لأنَّه كان سبباً في صياغةِ هذا الحراك السياسي والاقتصادي والاجتماعي ذي الصبغةِ الدولية أو الأهلية، والذي جرَّ الجامعةَ العربيةَ للتدخلِ، بعد كثافةِ الصورِ المنقولةِ من داخل سوريا والتي لا يستطيعُ أن يصمت حيالهَا حتى أعداء سوريا النمطيون .

فكان تدخلُ الجامعةِ العربيةِ إيذاناً بنهايةِ المرحلةِ الثانية ذاتِ السؤال الثاني لتبدأ مرحلة السؤال الثالث الذي سيقول : متى سيسقط النظام ؟ 

لقد تحقق تماماً لكل مطلعٍ أن النظام سيسقط ، وطُرِحَت أمام الجميع عدةُ سيناريوهات للسقوط، هي ما شهدته الساحةُ السورية ، فلم يكن انشقاقُ المقدم حسين هرموش مع مجموعةٍ من الجنود أمراً محدوداً معزولاً عن سياقِ تطورِ الأحداث، بل أصبح صانعاً للحدثِ القادم، حيث تطورَ إلى ظاهرةٍ يصعبُ السيطرة عليها، وأصبحَ النظامُ يجابه الجيشَ الحرَّ، الذي تصدى له في كل المناطق تقريبا، وأصبحَ النظامُ يرسلُ جنوده إلى مصيرين إما الانشقاق أو الموت ، وسقطت نظريةُ من يراهن على الجيشِ العقائدي ،الذي سيقاتلُ لحمايةِ النظامِ حتى النهاية ، وبدأت آثارُ العقوباتِ الاقتصادية تظهر في سوريا مع انهيار صرف الليرة والتضخمِ الحاصل بسبب تهريب الأموال إلى الخارج وتفشي البطالة ، وتوقف التجارة الداخلية والخارجية والسياحة، وإحجام الناس عن دفع الضرائب فيما سمي إضراب الكرامة الذي شمل عدة مناحي من العصيان المدني ؛ باختصار كثيف اختنق كل شيء .

ولم يكن الحصارُ السياسي بأقلَّ أهميةٍ من الحصار الاقتصادي، لقد أصبحَ النظام منبوذا أشاحَ الغربُ ، أي المجموعةُ الأنجلو ساكسونية بوجههم عنه، وفعلَ العربُ مثلَ ذلك ، ولم يغادر بشار سوريا خلال سنين الثورة باستثناء زيارته الدراماتيكية إلى موسكو ، تلك الزيارة التي أثارت كثيرا من الأسئلة حول الكيفيةِ ، التي خرج فيها والوسيلةَ التي استقلها، وأثارت موجة ًمن التندُّر بين المراقيبن، حولَ علاقةِ بشار الأسدِ بموسكو التي استدعته ليظهرَ أمامَ وسائلِ الإعلامِ في الكرملين دونَ مرافقين، ودونَ وفدٍ رسمي، ثم يعودُ خلسةً إلى دمشقَ بعيدا عن الأضواء ،وهو الذي اعتادَ أن يسافر إلى خارج سوريا عدة مرات في العام.

مرحلة السؤالِ الثالث هي الأشد صخباً وتعقيداً ، حيث وصل عددُ الشهداءِ إلى قريب المليون ، وتم تهجير الملايين داخل سوريا وخارجها ، لتكون مأساةُ المهاجريين السوريين أعظم َكارثةٍ تشهدُها الإنسانيةُ في العصرِ الحديثِ ، بعدَ الحربِ العالميةِ الثانية ، وترافق ذلك مع تمدُّدٍ كبيرٍ لتنظيمِ الدولةِ في المناطق الشرقية من سوريا ، وتقلُّص المساحات التي يسيطر عليها النظامُ ، لصالح الثوار ، وتدخل الأمريكان والروس لصالح الأكراد الذين أعلنوا الإدارةَ الذاتيةَ سعياً لتحقيق مشروع الكانتون الكردي .

مشهدٌ معقدٌ ومكتظٌ بالمتناقضاتِ، فالإيرانيونَ يحاولونَ تثبيتَ وجودهم تحتَ شعاراتهم الطائفية ، والروس يقصفون ذاتَ اليمين وذاتَ الشمال ليفرضوا الوقائعَ التي يريدونها في تناقضٍ بَيِّنٍ بينهم وبين الإيرانيين من حيث اختلافُ المشروعين ، ومجتمعٌ دوليٌّ يسعى لتفتيتِ المعارضةِ السورية ويدخلها في نفقِ تغيير هويةِ الحدثِ الثوريِّ من قضيةِ شعب يريدُ خلع دكتاتورٍ مجرم ومحاكمته إلى تصويرِ القضيةِ على أنَّها اشتباكٌ سياسيٌّ بين معارضة وحكومة يتم حله عبر جلسةِ مفاوضات .

نحن الآن في مرحلة السؤال الثالث الذي يقول : متى سيسقط النظام ؟ و الذي يتلازمُ مع السؤال الثاني كيف سيسقطُ ؟ والجوابُ باختصارٍ شديدٍ: الانهيارُ الاقتصادي، والفصائلُ العسكرية للثوار بكل مسمياتها ، وتهتُّكُ جيشِ النظامِ بين قتيلٍ ومنشقٍ ؛ تهتُّكٌ جعلَه يستجلِبُ المليشياتِ الطائفيةَ لمساعدته، وقد صار ميتاً سريرياً يضعُ له الأطباءُ السياسيون الدوليون أجهزةَ التنفس الصناعي، التي ستتم ُإزالتُها في لحظةٍ يرى هؤلاءِ أن هذا النظامَ الذي تم تصنيعُه ليخدمَ إسرائيل لا يمكن إعادةُ إنتاجه أو حقنه من جديد بإكسيرِ الحياةِ السياسيةِ ، لذلك لا يمكنُ لنا أن نبدِّلَ مواقعَ الأسئلةِ ، فلا يمكنُ السؤالُ الآنَ هل سيسقطُ النظامُ ؟ لأن ذلك يُعدُّ خللاً منطقياً.