الأربعاء 2017/06/07

سارع بالخيرات قبل نزول الموت و انقضاء مواقيته …

بالأمس عدت إلى بيتي متعباً منهكاً فقالت لي زوجتي هلَّا بدلت ثيابك وارتحت قليلا ريثما ينضج الطعام . 

وبالفعل ذهبت إلى غرفتي وبدلت ثيابي وتمددت على سريري واغمضت عيني !

ولم أفتح عينيَّ إلا على صوت المؤذن يؤذن لصلاة العصر، فخرجت من الغرفة متوجها إلى المطبخ فوجدت زوجتي منهمكة في إعداد المائدة .

جلست إلى المائدة وسألتها ماذا طبختِ لنا اليوم يا حبيبة القلب ؟

إلا أنها لم ترد !!! فعاودت السؤال مرة ثانية وثالثة فتفاجأت أنها لم ترد .... فكانت دهشتي أسبق من غضبي !

إذ إنها المرة الأولى وعلى مدى عشرين عاماً من حياتي الزوجية أخاطب فيها زوجتي ولا تعيرني أي اهتمام.

التفت فإذا بابني يدخل المطبخ، فطلبت منه إحضار زجاجة ماء من الثلاجة، فكان جوابه مماثلا لجواب أمه، فازداد تعجبي منه ذلك الشاب الدمث الذي يُضرب به المثل في الأدب وحسن الخلق !

فهممت بالخروج من المطبخ فإذ بزوجتي تقول لابني : اذهب وأيقظ أباك لتناول الغداء ! هنا بلغ مني الذهول مبلغا !

وبالفعل اتجه ابني إلى غرفتي ليوقظني ، فصرخت فيه بعلو صوتي أنا هنا، فلم يلتفت إليَّ ومضى مسرعاً وتركني غارقاً في ذهولي.

وبعد دقيقة أو يزيد عاد وقد ارتسم الرعب على وجهه فقالت له أمه : هل أيقظت أباك ؟

فتلعثم قليلا ثم قال : حاولت إيقاظه مرارا وتكرارا لكنه لم يجب ! فازدادت دهشتي، ماذا يقول هذا الولد !

فدخلت زوجتي مسرعةً إلى الغرفة وخلفها الأولاد مذعورين فتبعتهم لأجدها تحاول إيقاظ شخص آخر في سريري يشبهني تماماً، ويلبس نفس ثيابي .

وما إن يئِست من إيقاظه حتى بدأت عيناها تغرورق بالدموع وبدأ أولادي بالبكاء والنحيب ومناداة ذلك الرجل الملقى على فراشي والتعلق بثيابه أملا في الرد.

وأنا لا أصدق ما يجري حولي !

يا إلهي ما الذي يحدث ؟! من هذا الرجل الذي هو نسخة مني ؟! لماذا لا يسمعني أحد ؟! لماذا لا يراني أحد ؟! 

خرج ابني مسرعا ليعود بعد قليل ومعه أبي وأمي وإخوتي وانهمر الجميع في البكاء وأمي تعانق ذلك الرجل النائم مكاني وتبكي بكاء حارا، فذهبت إليها محاولا لمسها والحديث معها وإفهامها أني مازلت بجوارها إلا أنه حيل بيني وبين ما أردت.

فالتفت إلى أبي وإلى إخوتي محاولا إسماع صوتي ولكن دون جدوى .

ذهب إخوتي للإعداد للجنازة وخرَّ أبي على الكرسي يبكي وأنا في ذهول تام وإحباط شديد من هول ذلك الكابوس المزعج الذي أحاول الاستيقاظ منه.

جاء المغسل وبدأ في تغسيل ذاك الجسد الملقى على فراشي بمساعدة أبنائي ولفه بالكفن ووضعه في التابوت.

وتوافد الأصدقاء والأحباب إلى البيت والكل يعانق أبي المنهار ويعَزُّون إخوتي وأبنائي ويدعون لي بالرحمة ولهم بالصبر والسلوان.

ثم حملوا التابوت إلى المسجد ليصلُّوا عليه، وخلا المنزل إلا من النساء. فخرجت مسرعاً خلف الجنازة المتجهة إلى المسجد حيث اجتمع الجيران والأصدقاء واصطفوا خلف الإمام ليصلوا علي.

ووسط هذا الزحام الشديد وجدتني أخترق الصفوف بيسر وسهولة دون أن ألمس أحدا.

كبَّر الإمام التكبيرة الأولى وأنا أصرخ فيهم يا أهلي يا جيراني على من تصلون ؟!

أنا معكم ولكن لا تشعرون!

أناديكم ولكن لا تسمعون!

بين أيديكم ولكن لا تبصرون!

فلما استيأست منهم تركتهم يصلون وتوجهت إلى ذلك الصندوق وكشفت الغطاء أنظر إلى ذلك النائم فيه. 

وما إن كشفت عن وجهه حتى فتح عينيه ونظر إليَّ وقال: الآن انتهى دوري، أنا إلى الفناء أما أنت فإلى البقاء !

ثم قال لازمتك ما يزيد عن أربعين عاما واليوم مآلي إلى التراب ومآلك إلى الحساب !

ولم أشعر بنفسي إلا وأنا ملقى في التابوت فاقدا السيطرة على كل شيء أطرافي لم تعد تستيجب لي. لم أعد أرى شيئاً، لم أعد أقوى على الحراك، أحاول الكلام فلا أستطيع.

فقط أسمع تكبيرات الإمام ثم غمغمات المشيعين ثم صوت التراب ينهال عليّ ثم قرع النعال مبتعدة ، أدركت حينها أنها النهاية .

ولربما البداية .

بداية النهاية .

هكذا بكل بساطة ودون مقدمات ؟!

مازال لدي الكثير من المواعيد. 

مازال لدي الكثير من الأشغال . 

مازال لدي الكثير من الديون التي لم أسددها ولم أوص بسدادها . 

أين نقالي ؟

أريد أن أوصي بفعل خير لطالما أجلته. 

أريد أن أنهى عن منكر لطالما رأيته .

وشيئا فشيئا بدأت أختنق
ثم سمعتُ أصوات أقدام متجهة إليَّ. 
يا ويلتى سيبدأ الحساب !
هذا ما كان يقال لي في الدنيا . 
لابد أنهما منكر ونكير في طريقهما إليَّ . 
وبقيت أصرخ في قبري. 
رب ارجعونِ .
رب ارجعونِ .
رب ارجعونِ .
لعلي أعمل صالحا فيما تركت !
فلا أسمع صدى لدعائي سوى كلا ،،، كلا ،،، كلا .