الثلاثاء 2019/06/11

ريف دير الزور.. من محنة إلى محنة!

القهر الأسدي والقمع والاعتقال في زمن سيطرة نظام الأسد على ريف دير الزور كان المظهر الأبرز قبل الثورة.. وكان السحق والإقصاء مصير محافظة دير الزور ولاسيما ريفها، ليتبدل وجه ذلك بعد انطلاق ثورة الحرية والكرامة عام 2011 وبدء تحرير قرى الريف تباعاً.

ريف دير الزور قبل عام 2011

مع أنه الريف الأغنى من الناحيتين الزراعية والثروات الباطنية إلا أن أهله كانوا يعيشون حياة لم تكن بمستوى ما تنتجه أرضهم وذلك بسبب استغلال وتسلط الأسد ومخابراته على ثرواته، وسط إهمال النواحي الصحية والتعليمية والخدمية، ما جعله مهمّشاً دون ذكر له في سياسة الإقصاء التي اتبعها الأسد مع المنطقة الشرقية عموماً، وكانت معظم ثرواته تذهب لجيب عائلة الأسد الخاص، دون أن تعود على سوريا عموماً أو على ريف الدير بشكل خاص بأي نفع أو فائدة، فحتى الوظائف في حقول وآبار النفط فيه، كانت تذهب لمن هم قادمون من اللاذقية والقرداحة ومحيطها، وحرم أبناء دير الزور من هذه الوظائف، ولم ينلهم من النفط سوى رائحته وغازاته المسمومة التي تسببت بأمراض كثيرة بالمنطقة.

ورغم ذلك عمل أبناء الريف على تطوير أنفسهم بأنفسهم وتخرّج منهم آلاف الأطباء والمهندسين والمدرسين، بينما كان الكثير منهم يبحث عن الهجرة خارج أسوار وطن تحكمه عائلة الأسد، ليعيل أهله في ريف دير الزور، وكانت قوات النظام قبل الثورة تعمل على إرسال الضباط المقربين من العائلة الحاكمة إلى ريف ديرالزور، ليجمع ثورة طائلة ثم تقوم بنقله بعد ذلك إلى منطقته، فقد كانت المخافر والنقاط الأمنية مراكز لجمع الإتاوات والضرائب والرشاوى، وكان ضباط نظام الأسد يستغلون أي خلاف، صغيراً كان أم كبيراً، لجمع الأموال من الأهالي مقابل الإفراج عن أبنائهم، كما عملت على تكريس العشائرية على عكس ما ترفعه من شعارات بمحاربتها، وكسبت ولاء شيوخ العشائر وانقيادهم التام خلف سياسة نظام الأسد.

انطلاق الثورة 2011

جاءت ثورة الحرية والكرامة لتغير وجه سوريا عموماً، ولم تتأخر محافظة دير الزور عن الالتحاق بركب الثورة وانطلقت مظاهرات الثائرين ضد نظام الأسد في المحافظة ريفاً ومدينة، وبعد الانتقال إلى العمل العسكري، كانت البوكمال على الحدود العراقية السورية من أوائل المدن التي خسرها الأسد وزبانيته، ليتوالى سقوط المدن والبلدات تباعاً كأحجار الدومينو، ولم تطل المسافة الزمنية ليصبح ريف ديرالزور محرراً بالكامل، وذلك بالتزامن مع العمل على تحرير المدينة التي لم يبق منها تحت سيطرة نظام الأسد سوى 3 أحياء إضافة إلى مطار ديرالزور العسكري الذي ارتكبت مقاتلاته مجازر كثيرة بحق المدنيين في المحافظة.

ريف الدير.. ما بعد التحرير

تنفس المدنيون في ريف دير الزور الحرية بعد أن رحلت عصابات الأسد من مناطقهم وبدأ العمل على تحسين الظروف المعيشية للأهالي من خلال التجارة والزراعة التي ازدهرت رغم القصف والتدمير الذي كان مرافقاً لتحرير الريف الديري، وكان الريف ملاذاً للهاربين من قصف النظام على مدينة دير الزور والمدن الثائرة الأخرى، وضرب أهالي الريف المثال الأعظم للكرم وإغاثة الملهوف بداية مرحلة النزوح، وبعد ازدياد أعداد النازحين وطول الفترة الزمنية أخذت الخدمات المقدمة من الأهالي تخف إلا أنها لم تنعدم إلى يومنا هذا، وكان التكافل الاجتماعي في أبهى صوره رغم قسوة ما مر على دير الزور وأبنائها، ولاسيما بعد تحسن الظروف الاقتصادية للأهالي بريف دير الزور بعد دخول النفط الذي سنعرج عليه لاحقاً إلى الساحة الاقتصادية.

نفط دير الزور.. نعمة تحولت إلى نقمة

سيطر الثوار على آبار وحقول النفط ما يعني خسارة النظام عائداته وتحكم الثوار بوصوله لمناطقه، وبدأ مردوده يذهب لتمويل الثورة بالسلاح والعتاد والذخيرة، إلا أنه سرعان ما تحوّل بنقطة خلاف بين من سيسيطر على عائداته، ولكنّه أنعش المنطقة اقتصادياً وبدأ العمل على إنتاج "الحراقات" التي زوّدت سورياً عموماً بالمشتقات النفطية من بنزين ومازوت وكاز، وذلك وفّر فرص عمل للشباب الذين عانوا من البطالة وانعدام فرص العمل، ولكنّ النظام عمل على عقد صفقات لاستجلاب النفط إلى مناطقه من خلال صفقات نفذها عملاؤه مع بعض خونة الثورة، أو من خافوا من تهديدات النظام بقصف الحقول ما ينذر بكارثة تقتل مئات الآلاف وتدمر آلاف كيلومترات الأراضي المحيطة.

نعمة النفط لم تدم وتحوّلت إلى نقمة بعد أن كانت أعين المتربصين تتجه إليه، وعلى رأسهم تنظيم الدولة الباحث عن مصادر للتمويل بعد سيطرته على مدينة الرقة بالكامل، لتبدأ بعدها معارك السيطرة على ريف دير الزور بين التنظيم والثوار والتي انتهت بسيطرة التنظيم ليس على آبار النفط فقط بل على جميع المناطق التي حررها الثوار من نظام الأسد، وبدأت بذلك المحنة الثانية بعد محنة نظام الأسد، إذ عمل التنظيم على تصفية كل من لم يبايعه أو ينضم إلى صفوفه، وكان تركيزه في هذه المرحلة على الثوار تحديداً، وجعل من قتال الثوار هدفاً سبق قتاله لنظام الأسد.

الحرب على تنظيم الدولة.. وما خلفته على ريف دير الزور

بدأت الولايات المتحدة الأمريكية ومعها نحو سبعين دولة في تحالف عسكري، بالعمل على إنهاء وجود التنظيم في سوريا عموماً، وذلك من خلال القصف المكثف، بينما أطلق العنان للمليشيات الكردية بالعمل براً، وزودها بالسلاح الثقيل والخيرة والعتاد الذي عمل على قتل آلاف المدنيين في مناطق سيطرة تنظيم الدولة، لتكون هذه الحرب محنة ثالثة قضى خلالها من قضى وتهجر بسببها مئات آلاف من تبقى من أهالي ريف دير الزور ومن نزح إليهم، ولعلّ المأساة التي واجهوها خلال النزوح أو الهجرة لا تقل عن تصنيف المحنة التي تسبب بإذلال من لم يستطع الحصول على فرصة عمل أو كان لديه من يعيله من خارج سوريا.

تزامنت معارك التحالف الدولي والمليشيات الكردية ضد تنظيم الدولة، مع بدء تحالف روسي إيراني مع نظام الأسد في العمل نفسه ولكن بشكل أقسى، إذ وقعت مئات المجار في ريف دير الزور غرب الفرات أو ما يعرف بمنطقة الشامية، ونال أهلي المنطقة ما نالته منطقة الجزيرة شرق الفرات، وراح عشرات آلاف الضحايا المدنيين وتهجّر مئات الآلاف قسراً من منازلهم.

لتنتهي المعارك مؤخراً بإعلان القضاء على تنظيم الدولة في شرق الفرات من قبل الولايات المتحدة ومليشيات "قسد".

ريف دير الزور.. ما بعد تنظيم الدولة

بعد طرد تنظيم الدولة من ريف دير الزور على ضفتي الفرات الشرقية والغربية والذي تسبب بوقوع آلاف الضحايا وتهجير مئات الآلاف الآخرين بدأت الحياة الطبيعية تدب فيه من جديد، ولكن هذه الحياة ممزوجة بمحن جديدة، ففي منطقة الشامية وبعد أن استلمت مليشيات إيران الطائفية زمام الأمور في منطقة الشامية بدأت تعمل على التطويع الإجباري بطريقة غير مباشرة من خلال تقليل فرص العمل وإعطاء رواتب عالية للمتطوعين نسبة إلى ما تدفعه قوات النظام للمتطوعين في مليشيات ما يسمى "الدفاع الوطني"، وعملت أيضاَ على نشر التشيع واعتقال أو طرد كل من يعارض سياستها في المنطقة ما تسبب بمقتل وفرار مئات المدنيين بعد عودتهم إلى قراهم ومدنهم باتجاه مناطق سيطرة المليشيات الكردية.

وفي منطقة الجزيرة (شرق الفرات) كان الوضع أفضل من الشامية إلا أن الإهمال من قبل مليشيات "قسد" كان مصير الريف الديري، وذلك على حساب اهتمام المليشيات الكردية بتطوير وتحسين الخدمات في القرى والمدن الكردية إذا تعرف تماماً أنها لن تستطيع الإقامة والسيطرة على ريف دير الزور إلى الأبد، وهذا أدى إلى عودة ريف دير الزور إلى المربع الأول من المعاناة من قلة الخدمات ساء كانت صحية أو خدمية أو تعليمية، إضافة إلى حملات الاعتقال بهدف التجنيد الإجباري للشباب في ريف المحافظة وحملات الاعتقال لهذا الغرض، ويضاف إليها الرعب المصحوب بالإنزالات الجوية والمداهمات الليلية التي ينفذها التحالف الدولي و"ب ي د" في المنطقة بحجة ملاحقة خلايا التنظيم، والذي قتل خلالها عشرات المدنيين في الشحيل وضمان ومناطق الشعيطات.

إلا أن أهالي ريف دير الزور عرفوا الطريق لنيل الحقوق وقاموا بمظاهرات ضد ممارسات "ب ي د" أجبرت التحالف الدولي على الجلوس معهم والاستماع لمطالبهم والعمل على تحقيقها ولكنّ الوضع الخدمي لايزال متردياً بالنسبة لأحلام وآمال المدنيين، ويضاف إلى ذلك الخوف من الخلافات العشائرية في ظل انتشار السلاح والذي يعتبر محنة أخرى تستفيد منها وتغذيها المليشيات الكردية، لإضعاف العشائر كي يسهل السيطرة عليها، ولعلّ المشكلة الأخيرة بين عشيرتي "البوجامل والبوفريو" مثالٌ على استغلال مثل هذه الخلافات وذلك من خلال عدم التدخل بل على العكس تماماً قامت "ب ي د" بدعم طرف على حساب طرف آخر، إلا أن تعقل وتدخل بعض الشيوخ ووجهاء العشائر ساهم في حقن دماء المدنيين في المنطقة الواقعة على خط الخابور في ريف دير الزور الشمالي.

محنة تتلوها محنة ومصاعب بالجملة واجهت الديريين عموماً، ولكنّ هذه المحن لم تنسهم رابطة الدم ومواصلة العمل على تحرير سوريا كاملة من عصابات الأسد، وخلدت الثورة ولاتزال أسماء أبطال دير الزور الذين قتلوا في معارك ضد النظام المحافظات السورية، ومعارك ريف حماة الأخيرة خير مثال على تفاني أبناء دير الزور في الدفاع عن ثورتهم ضد بشار الأسد وطغمته، الثورة التي قدموا من أجلها الغالي والنفيس.