السبت 2019/01/19

“دائرة الخداع”.. هذه عواقب “الثورات المضادة” في المنطقة العربية

"ثمة احتمال كبيرٌ جدّاً بأن تؤدّي الثورة العربية المضادّة الراهنة إلى اندلاع مزيد من الثورات لاحقاً".

بهذه العبارة افتتح "مايكل يونغ" (مدير تحرير في مركز كارنيغي للشرق الأوسط) مقالة له في "مركز كارنيغي" حمل عنوان "دائرة الخداع".

المقالة سلّطت الضوء على علاقة بعض البلدان العربية بسوريا، وعلى ارتباط حركة التطبيع الأخيرة مع الأسد بالصراع الإيراني العربي. واستشهدت بالقرار الذي اتخذته الإمارات والبحرين مؤخراً بإعادة فتح سفارتَيهما في دمشق، مستأنفتَين بذلك علاقاتهما مع نظام الأسد. وهما دولتان حليفتان مقرّبتان من السعودية، ولذلك يمكن الافتراض، من دون مجازفة، بأن قرارهما حظيَ بموافقة الرياض. وهذا يُسلّط الضوء على أن السعوديين أنفسهم ينوون تطبيع العلاقات مع نظام بشار الأسد، بغض النظر عن الجرائم الجماعية التي ارتكبها خلال الصراع السوري. حتى إن أحد التقارير أشار إلى أن علي المملوك، رئيس مكتب الأمن الوطني السوري، زار المملكة قبل بضعة أيام.

وكانت مصر قد أعادت فتح سفارتها بالعاصمة السورية، في أعقاب الانقلاب العسكري ضد الرئيس السابق محمد مرسي في العام 2013، ومنذ ذلك الوقت، تتحدّث تقارير عن تعاون عسكري مصري مع نظام الأسد. كذلك، ألمحت الكويت إلى أنها قد تحذو حذو شركائها في الخليج عبر إعادة دبلوماسييها إلى سوريا. وقد حملت الزيارة التي قام بها مؤخّراً الرئيس السوداني عمر البشير إلى دمشق، مؤشراً إضافياً عن أن الأسد يشقّ طريقه للعودة إلى الحضن العربي، ولو أن البشير، الذي أدانته المحكمة الجنائية الدولية بارتكاب جرائم حرب، يُقدّم صورة وافية عمّا تعنيه عودة سورية إلى الحضن العربي.

يرى "مايكل يونغ" أن هذا الحراك نحو التطبيع مع الأسد كان متوقّعاً، أي تجمهُر قوى الثورة العربية المضادة حول مبدأ القضاء على ما تبقّى من زخم المعارضة في المنطقة. وتوقَّع أن تلوح في الأفق أجواءٌ قمعية أكثر في عدد كبير من البلدان العربية، حيث لم يُحلّ حتى الآن أيٌّ من المشكلات التي أدّت إلى اندلاع انتفاضات العام 2011. لابل إن الدرس الذي تبنّته الأنظمة العربية هو أنها لم تمارس ما يكفي من العنف لخنق مجتمعاتها بالكامل، وهكذا قد يتحوّل لجوء الأسد إلى المجازر الجماعية نموذجاً يَقتدي به في المستقبل، القادة المتمسّكون بمناصبهم مهما كان الثمن.

شماعة "الخصومة مع إيران":

يؤكد الكاتب "مايكل يونغ" أن المجهود العربي للتقرّب من نظام الأسد يعد تكراراً لسلوكٍ تجلّى قبل بضع سنوات عندما استخدمت الدول العربية المكافآت لمحاولة إبعاد سوريا عن إيران. ومن شأن ذلك أن يُتيح لبشار الأسد الحصول مجدّداً على تنازلات – بما في ذلك تمويل عربي لإعادة إعمار سوريا، وربما تجدُّد النفوذ السوري في لبنان –،ولو أنه لم يفعل الكثير لتلبية الرغبات العربية.

غالب الظن أن قدرة الأسد على خداع الدول العربية ستؤدّي بشكلٍ كبير إلى بقاء الدور الإيراني في سوريا على حاله. وقد تبذل الدول العربية جهوداً لتعزيز الحضور الروسي في سوريا، بغية إرساء ثقل موازن مقابل الوجود الإيراني. لكن الروس، شأنهم في ذلك شأن الأسد، غير مستعدّين لأن يكونوا أداةً تستخدمها الأنظمة العربية ضد إيران. بعبارة أخرى، تُعدّ قدرة الدول العربية على احتواء إيران محدودة اليوم، مثلما كانت قبل ثماني سنوات، قبل أن تقلب الانتفاضات العربية المنطقة برمتها رأساً على عقب.

لكن ماذا عن الدول غير العربية؟

في الوقت الذي لم تجد فيه الدول العربية من الولايات المتحدة أي خطوات جادة لتقليم أظافر إيران في المنطقة، تحوّلت "الآمال العربية" نحو جهة فاعلة أخرى غير عربية هي إسرائيل. لقد حقّق الإسرائيليون، عبر شنّ هجمات على أهداف إيرانية داخل سوريا، بعض الرغبات العربية.

النتيجة في هذا أن النظام العربي يبدو الآن في مرحلة "أكثر تصلباً"، يتكيف فيها مع حقبة "ما بعد الولايات المتحدة"، حيث يُتوقع أن تؤدّي إسرائيل دوراً موسَّعاً في كبح إيران، إضافة إلى تجدُّد الزخم الروسي مع قيام موسكو بالتلاعب بجميع الأفرقاء سعياً إلى تحقيق نفوذ إقليمي أوسع. ليبقى السؤال الأساسي الآن هو: إلى أين سيقود هذا كله؟ هل سيسهم في نشر الاستقرار في الشرق الأوسط، أم على النقيض، سيولّد ديناميكيات جديدة ومدمِّرة؟

يرى الكاتب أنه مع ظروف المنطقة العاجزة أصلاً عن تلبية حاجات مواطنيها اليومية، من الصعب أن نتخيّل نتيجةً أخرى غير المزيد من الخراب. إذ إن الاستبداد، مقروناً بالتدهور الاقتصادي الواسع النطاق وذكرى احتجاجات 2011، لن يجلب الطمأنينة والهدوء. وقد يولّد الاعتماد على إسرائيل، التي سيكون دورها، على نحوٍ أساسي، حماية الأنظمة في معظم البلدان الخليجية من إيران، مشكلات خطيرة على مستوى الشرعية، نظراً إلى أن بقاء هذه الأنظمة سيصبح مرتبطاً بتضحيات الفلسطينيين. كما إن مكانة موسكو المعزَّزة ستُشكّل عاملاً مزعزعاً، لأنه ستكون للروس -على الرغم من أنهم يدّعون أنهم يعملون على تثبيت الأوضاع- مصلحة في استغلال الانقسامات بين شركائهم الإقليميين لتعزيز نفوذهم.

في هذه الأثناء.. لا أحد يعرف كيف ستخرج طهران من هذه المعمعة. إذ تتخبّط إيران في أزمة اقتصادية كبرى، فيما يناهز قائدها الثمانين من العمر ويُشرف على الخروج من منصبه، وتتسبّب المنظومة بإحباط شعبي غير مسبوق. وسيواجه النظام تحدّيات وجودية جديدة، إنما من الممكن جدّاً كذلك أن تولّد الظروف الرديئة في العالم العربي فرصاً تستخدمها إيران للتخفيف من تأثير هذه التحديات.

إزاء هذه الأوضاع غير السويّة التي تسود بكثرة في المنطقة، يجب الابتعاد عن قراءة الأمور بطريقة تختزل كل شيء بتوسّع النفوذ الإيراني. لا شك في أن صعود إيران هو عامل أساسي من عوامل زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط، لكنه أيضاً من عوارض تدهور منظومة الدول العربية، بشكلٍ يشبه إلى حد كبير صعود تنظيم الدولة. في الوقت الراهن، يرصّ الأفرقاء في هذه المنظومة صفوفهم للإبقاء على الحكم السلطوي، لكن آلياته تعاني من الانحلال. لذا، ترقّبوا انتفاضات جديدة، فتوازن الطغاة يعني في معظم الأحيان فقداناً تامّاً للتوازن.