الخميس 2018/07/26

جدران مهدمة أحب من مستقر أليم

لا يتوقف أهالي الغوطة الشرقية عن ترديد المثل "ما أجبرك على المر سوى الأمر منه"، وهذا بالضبط ما حصل مع "عبد العظيم"، الذي أجبره سوء وضعه المادي على مغادرة منزل استأجره في مدينة التل شمالي دمشق، ليعود لبلدته زملكا بعد أن سيطر النظام عليها مع بقية مناطق الغوطة الشرقية، على الرغم من عدم توفر مقومات الحياة، وتعرض منزله للتدمير الكامل، ما اضطره للسكن مؤقتا في منزل شقيقه.

غادر عبد العظيم، 45 عاما، مع زوجته وأطفاله، زملكا بعد استهدافها بغاز السارين صيف 2013، وبقي خمس سنوات يدفع كل شهر أربعين ألف ليرة إيجار المنزل الذي استأجره في مدينة التل.

قرار العودة صعب جدا لكنه لم يعد خيارا بالنسبة إليه، فمصاريف عائلته ازدادت بشكل كبير ولم يعد باستطاعته دفع إيجار المنزل، في الوقت نفسه تتعارك في داخله ذكريات الموت والخوف من قوات النظام، لكنه أقنع نفسه أن الأمور ستكون أفضل هذه المرة، على الأقل لن يكون مضطرا لدفع إيجار المنزل، وعدم توفر مقومات الحياة الأساسية ليست بالمشكلة الكبيرة.

بعد مضي أسبوع من سيطرة قوات النظام على الغوطة، سمع "عبد العظيم" أن قوات النظام تسمح للسكان الموجودين في مناطق سيطرتها بالعودة لمنازلهم، لكن حاجز "الكباس" على مدخل الغوطة الشرقية الرئيسي أعلن أن المسموح لهم بالدخول هم عائلات العسكريين فقط.

سمحت قوات النظام في الأيام الماضية للسكان بالعودة إلى منازلهم، وفي طريق العودة، جلس عبد العظيم في المقعد الأمامي لسيارة استقلها برفقة ثلاثة آخرين كانوا صامتين طوال الوقت، الجميع قلقون، وعبد العظيم يتمنى في قرارة نفسه ألا يسمح عناصر الحاجز لهم بالدخول خوفا مما ينتظره هناك ، لكن الحاجز سمح لهم بالدخول.

سارت السيارة فوق الركام، الدمار في كل مكان، الأبنية مهدمة، لا أثر لحياة في الغوطة تشبه خارجها، لكن على الرغم من الدمار الكبير شعر عبد العظيم أن السكان لا يكترثون لشيء بعد ما مروا به من مآس.

وصلت السيارة إلى زملكا، لم ينتبه عبد العظيم إلى أن الأشخاص الذي رافقوه ترجلوا في كفربطنا، شغلته ذكريات منزله وتفاصيله البسيطة وصور والده التي تركها والكأس الزجاجية التي يفضلها، تطغى وجوه الأطفال الذين قتلوا بالكيماوي على كل تلك الذكريات لكنه يحاول إبعادها.

بالكاد كانت السيارة تستطيع المرور بين أكوام الركام، معظم الطرقات لاتزال مغلقة، وجوه شاحبة وزمن توقف، لا حياة هنا إلا للأموات، كل شيء يبدو أسود، حتى الأبنية القليلة التي لاتزال صامدة كانت سوداء سبب الحرائق، سيارات محطمة في الطرقات، أشلاء ذكريات الناس مرمية في الشوارع والأزقة تنتظر من يجمعها، أحياء بأكملها مسحت، ومعالم شهيرة اختفت، الموت وحدة بقي، وكتل الغبار المتطاير تخفي حياة من عاش هنا.

كان منزل عبد العظيم قريبا من الجسر الواصل بين بلدة زملكا وحي جوبر، وقف حائرا، ماذا سيقول لزوجته وأطفاله، فلم يبق شيء من حيه، كأن القيامة مرت من هنا.

شبح الإيجار يلاحقه، ففكر بمنزل أخيه الواقع بالجهة الشرقية من البلدة، فالدمار فيها أقل، وأخوه لن يعود من ألمانيا التي هاجر إليها، وصل للمنزل الذي كان خاليا من كل شيء إلا من سقف وجدران مهدمة، لكنه أفضل من دفع 40 ألف ليرة كل شهر.

ما مر به عبد العظيم ينتظر ما يقارب 250 ألف عائلة غادرت الغوطة الشرقية هربا من حرب النظام عليها، ولجأت لأحياء العاصمة وباقي بلدات الريف الدمشقي، التي كانت تحت سيطرة قوات النظام، وتنتظر العودة إلى منازلها، والتخلص من عبء الإيجار، رغم أن معظم المنازل مدمرة وغير صالحة للسكن ولا وجود للخدمات.

يقدر عدد السكان الموجودين حاليا في الغوطة الشرقية بنحو 150 ألف شخص، في حين بلغ عددهم في إحصاء عام 2009 مليون و 800 ألف، اضطر جزء كبير منهم للمغادرة مع تصاعد الأعمال العسكرية، وقبل حصار الغوطة بقي منهم نحو 400 ألف بين عامي 2013 و 2018، والتي انتهت بسيطرة قوات النظام على الغوطة، وتهجير المعارضين البالغ عددهم نحو 60 ألفا للشمال السوري.

يعيش أهالي الغوطة الشرقية اليوم بلا ماء أو كهرباء أو خدمات، ودمار كبير في الأبنية السكنية، ويعانون من حالات ابتزاز من حواجز قوات النظام المنتشرة بين البلدات انتهى بعضها بالاعتقال، ومع ذلك كله، عاد نحو 10 آلاف عائلة إلى منازلهم خلال الشهر الأخير، فجدران مهدمة أحب إليهم من مستقر أليم.