الخميس 2016/10/06

“جاستا” يقرب بين تركيا والسعودية

لم يعد خفياً أن هناك حالة من عدم الاستقرار في العلاقات السعودية-التركية؛ فمن جهة، نرى موقفي الملك سلمان وولي عهده، مؤيدين للتقارب مع تركيا، وفي المقابل نرى مركز قوة داخل السعودية يسخّر إمكانياته كافة للإساءة للجمهورية التركية. هذا الوضع جعل البلدين يضطران في أكثر من مناسبة إلى استخدام التعابير الديبلوماسية للتغطية على هذا التذبذب في العلاقات بين البلدين، وإظهار صورة غير واقعية عن حال هذه العلاقات.

ولكن الواقع يقول غير ذلك، فإذا كانت جنازة الملك السعودي الراحل عبدالله، قد فتحت صفحة جديدة في العلاقات بين تركيا والسعودية، بإدخال الرئيس التركي إلى قسم الأمراء من الأسرة المالكة في صلاة الجنازة، ما أثار توقعات كثيرة لشبه تحالف استراتيجي بين البلدين تجلى في "مجلس تعاون استراتيجي"، وتُوجَت بمناورات عسكرية مشتركة، واستعدادات سعودية للمشاركة في عملية عسكرية شمالي سوريا على طريقة "الحزم" في اليمن، فإن هذه التطورات كلها توقفت، وعادت الأمور إلى ما كانت عليه قبل إصلاح العلاقات بين البلدين.

يمكن القول إن الجناح المناهض للتقارب التركي السعودي في المملكة فرض كلمته، ورجحت كفته، وعادت وسائل الإعلام السعودية تمارس البروباغندا الموجهة ضد تركيا. والملاحظ أن الانقلاب العسكري كان نقطة الفصل، أو المنعطف الأساس لهذه التغييرات.

لا شك أن موقف الجناح السعودي المناهض لتركيا من الانقلاب الفاشل جاء منسجماً مع الموقف الأميركي، فمازال هناك جزء كبير من الأمراء والمسؤولين السعوديين متمسكين بالعلاقة مع الولايات المتحدة، ويوجهون حساساتهم نحو ذلك البلد لاتخاذ أي قرار. من هنا تأخر الموقف السعودي من الانقلاب الفاشل حتى صدر القرار الأميركي، وعملت قناة "العربية" السعودية، أداة بروباغندا لصالح الانقلابيين الأتراك. وعندما أرادت أن تكحل الأمر، فأعمته حين ادعى أحد أعمدة البروباغندا أن القناة تنقل ما تنقله وسائل الإعلام التركية، علماً أن وسائل الإعلام التركية المعارضة والموالية توحدت على نقطة رفض الانقلاب.

وهكذا لعب الانقلاب العسكري دوراً حاسماً في تحديد المواقف، وكان سبباً بعودة البرودة إلى العلاقات التركية-السعودية على الرغم من حرص الطرفين على إنكار هذه البرودة.

ولكن خيبات تركيا المتكررة على مدى أكثر من خمس سنوات من السياسة الأميركية في سوريا، وعمل الولايات المتحدة كل ما بوسعها من أجل الدفاع عن نظام الأسد وتغطية حتى جرائم الكيماوي التي اعتبرتها خطأ أحمر، وضعت تركيا والولايات المتحدة في موقعين متناقضين. وما زاد الطين بلة العلاقة المستجدة بين الولايات المتحدة وحزب "العمال الكردستاني" على الرغم من قبول واشنطن هذا التنظيم كمنظمة إرهابية. وجاء تسريب تسجيل وزير الخارجية الأميركية الأخير الذي يصف "حزب الله" اللبناني بأنه ليس عدواً على الرغم من قتاله إلى جانب الأسد ليضع السياسة الأميركية في موقع آخر مختلف تماماً عما كان عليه طوال عقود من التحالف مع تركيا ودول المنطقة العربية.

من جهة أخرى، بدأت السياسة الأميركية تتجه لمراعاة حليفها الجديد نظام الإمام الفقيه، وتقدم له أنواع الدعم العسكري كافة على حساب الحليف التقليدي السعودي. ولم تكتف الولايات المتحدة الأميركية بهذا، فقد شرّعت قانونَ "جاستا" الذي يفتح لأسر ضحايا الحادي عشر من أيلول/سبتمبر إمكانية رفع الدعاوى على المملكة العربية السعودية. وهذا يعني فرض مليارات الدولارات على المملكة التي تعاني أساساً من تراجع أسعار النفط، وعجز في الميزانية.

أعداء الأمس أو من كانوا يسمون ظاهرياً أعداء الولايات المتحدة بالأمس، أصبحوا اليوم حلفاء مدللين، بينما حلفاء الأمس وعلى مدى عقود باتوا اليوم في خانة الأعداء، فهل يركن هؤلاء لهذه التحولات؟

صحيح أن الولايات المتحدة دولة عظمى، ويمكنها أن تفرض سياستها على الدول التي تريد، ولكن هذه الدول فيما لو تكتلت، وتحالفت في ما بينهما يمكن لها أن تُحدث فرقاً.

لم يعد بإمكان المدافعين عن الولايات المتحدة ضد تركيا في المملكة العربية السعودية إشهار موقفهم بشكل علني، ولعل زيارة ولي العهد السعودي محمد بن نايف إلى تركيا، ومناقشته الأوضاع في المنطقة حظيت لأول مرة بصمت مطبق من اللوبي السعودي المناهض لتركيا، وكان قد سبقه لقاء آخر على هامش اجتماعات هيئة الأمم المتحدة مع الرئيس التركي. ولم يغب عن المراقبين أن تركيا كانت الدولة الأولى ولعلها الوحيدة التي اتخذت موقفاً حازماً برفض قانون "جاستا"، وانتقاده بشدة واعتباره عملاً يتجاوز الأعراف القانونية.

تلعب السياسة الأميركية دوراً خطيراً مؤثراً على الأمن القومي التركي والسعودي في آن واحد، ولا شك أن هذا الدور هو لصالح إيران وسياستها في المنطقة، وفيما لو نجحت هذه السياسة لن تبقى تركيا الحالية، كما لن تبقى السعودية الحالية، وليس بعيداً أن يدخلا مرحلة التفتت.

فهل يكون قانون "جاستا" القشة التي تقصم ظهر البعير لتصفية السياسة المناهضة لتركيا داخل السعودية؟ لقد كان استقبال ولي العهد السعودي في تركيا استقبالاً حافلاً. صحيح أنه لم يصدر شيء عن الاجتماعات المغلقة التي عقدها ولي العهد مع رئيس الجمهورية ومع رئيس الحكومة، ولكنها لا شك أنها تناولت مواضيع غاية في الحساسية، ووضعت أسساً لمرحلة جديدة من العلاقات بين البلدين.

لم يعد أمام السعودية كثير من الخيارات، فالخيار شبه الوحيد أمامها الاعتماد على التحالفات الإقليمية الأقرب إلى رؤاها الاستراتيجية. ولعل تركيا تأتي في مقدمة هذه الخيارات. ولكنها قبل حسم هذا الخيار لابد لها من ترويض اللوبي السعودي الذي مازال ينفق الملايين في سبيل دعاية مناهضة لتركيا لن يحصد منها سوى قبض الريح.