الأحد 2019/07/21

تركيا واللاجئون السوريون.. تحولات كبرى على أبواب عهد جديد؟

 في منتصف نيسان الماضي، وعقب الفوز الأول لمرشح المعارضة لرئاسة بلدية إسطنبول "أكرم إمام أوغلو"، وبعد تصريحات بعض رؤساء البلديات الفائزين بالمنصب حديثاً حول عزمهم على إيقاف المساعدات عن اللاجئين السوريين، قطع الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" الجدل حول مخاوف السوريين ببلاده من الوضع الجديد، وأكد أن حكومته ستواصل دعم السوريين، وقال حرفياً: "لن ننتظر قدوم مساعدات لأربعة ملايين لاجئ، وإذا كان بحوزتنا طبق حساء فسنتقاسمه مع إخواننا اللاجئين، ونواصل طريقنا".

جاء تصريح الرئيس التركي حينها، بمثابة رسالة طمأنينة هدّأت قلق ملايين اللاجئين السوريين، الذين تملّكهم الخوف على مستقبلهم، بعد أن وجدوا أنفسهم        -بشكل مفاجئ- ورقة انتخابية في برامج المرشّحين الذين توعّدوا بإعادة السوريين إلى بلادهم، متجاهلين استمرار المخاطر التي دفعتهم أصلاً إلى ترك ديارهم ومصادر رزقهم. لم يدرك السوريون حينها أن الأسابيع القادمة ستكون بمنتهى القسوة والصدمة.

عاصفة تصريحات "يلدريم":

قبل يوم واحد فقط من جولة إعادة الانتخابات على رئاسة بلدية إسطنبول، خرج مرشح "العدالة والتنمية" بن علي يلدريم بتصريحات أشعلت عاصفة واسعة من الاستغراب في أوساط اللاجئين السوريين، حين أكد في لقاء مع إذاعة محلية، أن السوريين "باتوا يشكّلون تهديداً على أمن وسلامة العائلات" في إسطنبول.

مردفاً بالقول:"لم تعُد النساء قادرات على الخروج بمفردهن، كما لم يعُد الأهالي يجرؤون على إرسال أطفالهم إلى الشارع بمفردهم".

وأكد يلدريم حينها أن السوريين "راحلون لا مفر".

اختلفت مواقف السوريين حينها تجاه تصريحات يلدريم، بين من رأى فيها مجرد رسالة للناخب التركي قبل يوم من الانتخابات، وبين من رأى أن يلدريم لم يتحدث من تلقاء نفسه، إنما أعطى فكرة عن تغيّر التوجهات لدى حزب "العدالة والتنمية" الحاكم.  سواء أكان هذا أو ذاك، فإن هذا التصريح جاء بمثابة انقلاب مفاجئ على لهجة الحزب الحاكم المعتادة تجاه السوريين في تركيا، والتي تبتعد عادة عن وصفهم باللاجئين، وتسمّيهم "ضيوفاً" أو "مهاجرين" في ديار "أنصارهم" الأتراك.

في اليوم التالي خسر يلدريم السباق نحو "بلدية إسطنبول الكبرى"، ليدخل الوجود السوري في تركيا منعطفاً جديداً غير مسبوق، رأى فيه أنصار المعارضة أن الوقت قد حان "للانتقام" من 4 ملايين لاجئ، صاروا شمّاعة للتحولات التاريخية الكبرى التي تمر بها تركيا ومنطقة الشرق الأوسط. وبشكل غير مسبوق انطلقت حملة عنصرية ضد السوريين.

مثّلت مواقع التواصل الاجتماعي الساحة الكبرى لتلك الحملة عبر وسم "لا أريد السوريين في بلدي"، بينما تجلّت في الواقع عبر حادثة الهجوم على محلات السوريين في منطقة "إكيتيلي" بإسطنبول، بسبب حادثة تحرّش مفبركة.

وبدون سابق إنذار صار اللاجئ السوري متّهماً بالتسبب بأزمة الليرة التركية، وارتفاع نسبة البطالة، والتحدّيات الأمنية، وتغيير "الهوية الثقافية" في إسطنبول!.

تشجيع على العودة أم "تضييق ممنهج"؟

على الرغم من القلق الكبير الذي أثارته الحملة العنصرية بعد انتخابات إسطنبول، إلا أن غالبية السوريين تعلّقوا بأمل كبير رسمه الرئيس التركي منذ سنوات، عنوانه "أنتم المهاجرون ونحن الأنصار"، ولم يخطر في أسوأ كوابيس السوريين أن وضعهم على أراضي "الجارة الحنون"، سيسير نحو تعقيدات وجودية، ولم يتخيّلوا  -وفقاً لتعليقات لاجئين سوريين إزاء القرارات الجديدة-  أن تأتي اللحظة التي سيعضّون فيها أصابعهم ندماً، لأنهم لم يركبوا البحر تجاه أوروبا، خوفاً على مستقبل أولادهم من المجهول، طالما أنهم على أراضي دولة مسلمة، قدمت لهم خلال سنوات ما فقدوه فعلياً في وطنهم الأصلي.

ازدادت الأمور سوءاً مع إجراءات جديدة أعلن عنها فجأة وزير الداخلية التركي، تتعلق بترحيل من لا يملك "بطاقة الحماية المؤقتة"، وإخراج من لا يملك قيداً في إسطنبول من المدينة، وترحيل المخالفين بشكل فوري، ووجوب استخلاص "إذن عمل" للسوريين.

التعليمات ليست صادرة من المعارضة هذه المرة، بل من الوزير الذي أطلق عليه السوريون "أردوغان الثاني"، لشدّة مناصرته قضاياهم والدفاع عنهم، وكان الوزير نفسه قبل أسابيع قليلة من هذه الإجراءات الجديدة استنكر على المعارضة في بلاده المطالبة بترحيل "الهاربين من الموت"، مؤكداً أن "ظروف الحرب لم تُبقِ للسوريين بلاداً حتى يتمكنوا من العودة إليها".

وتزامنت القرارات الجديدة مع حديث الرئيس التركي عن نيّة حكومته "إيقاف الطبابة المجانية المقدمة للسوريين" في المشافي التركية، وفرض "تعرفة" لتغطية تكاليف خدمات المستشفيات والأدوية، كما أكد الرئيس التركي في اجتماع عقده مع نواب حزبه بالعاصمة أنقرة أنهم "سيتحذون عدة خطوات من شأنها أن تشجّع السوريين على العودة إلى بلادهم".

تصريحات أكثر رجلين دافعا عن الوجود السوري في تركيا فتحت باباً واسعاً جداً من القلق والخوف والتشاؤم من المستقبل القريب، وبات السؤال الأول الذي يتداوله السوريون: هل هذه الخطوات "تشجيع على العودة" أم "تضييق ممنهج" يدفع اللاجئين في النهاية إلى مغادرة تركيا من تلقاء أنفسهم؟!

مناشدات شعبية في مهب الريح:

مسلسل القرارات الجديدة بحق اللاجئين السوريين لم يستهدف فئة بعينها، فالناظر إلى مجمل تلك القرارات يجزم أنه لا ناجي منها إلا من رحم ربي.

يمكن إجمال القرارات الأخيرة بعدة نقاط، جرى نقاش واسع بين السوريين حول كارثيتها على أوضاع نحو 4 ملايين لاجئ، يشكّلون في واقع الأمر عدداً قريباً من عدد سكان دولة مثل ليبيا، وقعوا أصلاً في إشكالية مفتوحة، عنوانها الواسع تسهيل تام لدخولهم إلى تركيا تحت سياسة "الباب المفتوح"، وما تبعها من السماح لهم بالإقامة غير المشروطة وتلقي بعض المساعدات والطبابة المجانية والعمل دون قيود، ليتحوّل "الباب المفتوح" فجأة إلى "أسوار عالية" من القرارات، بعضها يخص الإقامة وبعضها يخص العمل، والآخر يستهدف حرية الحركة والتنقل، دون إعطاء فرصة لمن وجدوا أنفسهم بحكم القرارات "مخالفين"، من أجل تسوية أوضاعهم في الإقامة والعمل.

وأمام معضلة استحالة أن يصل السوريون إلى أصحاب الحل والعقد في تركيا، فإنهم وجدوا في مواقع التواصل مسرحاً لبثّ تساؤلاتهم ومطالبهم وأمنياتهم الصغيرة، وقام بعضهم بإنتاج تسجيلات مصوّرة قصيرة باللغة التركية، فيما قام آخرون بكتابة رسالة استعطافية مطوّلة، وجّهوها باللغتين العربية والتركية للرئيس التركي وأعضاء البرلمان.

تعكس المناشدات الشعبية حجم المأساة التي يمكن أن تهدّد مستقبل اللاجئين من جميع النواحي، غير أنها تبقى بلا فعالية مع عدم وجود هيئة سياسية أو قانوني فاعلة وقوية، تمثل السوريين وتوصل صوتهم إلى المعنيين في الحكومة التركية.

حاول بعض الإعلاميين إيصال تلك المطالبات إلى وزير الداخلية التركي خلال اجتماعه الأخير مع نحو 100 إعلامي، وقدّم الوزير وعوداً بالتجاوب مع تلك المطالبات، غير أن الواقع على الأرض لم يختلف كثيراً؛ فعمليات الترحيل إلى سوريا تجري على قدم وساق بشكل فوري، وبصورة لا تتيح لمن جرى احتجازه تسوية وضعه، وكثير من العمال السوريين آثر الجلوس في البيت على وقع دوريات تضبط من لا يملكون "إذن العمل".

لا ينكر أحد حجم الضغوطات التي تتعرض لها حكومة الرئيس أردوغان؛ سواء أكانت ضغوطات داخلية من أحزاب المعارضة، أو كانت ضغوطات خارجية، ولا ينكر أحد كذلك أن للحكومة التركية الحق في تطبيق القانون الذي يوافق مصلحة البلاد العليا، غير أن اللاجئين السوريين لم يختاروا أصلاً طريقة عيشهم في تركيا، ولم يكونوا على دراية كافية بالقوانين التي تنظّم وجودهم، وكل ما يطالبون به اليوم هو إعطاؤهم الفرصة الزمنية الكافية لتسوية أوضاعهم بالانتقال إلى ولايات أخرى، وتسهيل منح تلك الولايات قيوداً لمن لا يملكون قيوداً.

المهلة الزمنية وحدها يمكن أن تحل إشكالية هؤلاء أمام قرارات جرى اتخاذها بشكل سريع ومفاجئ، كي لا يعيشوا تجربة نزوح جديدة، وكي لا يخوضوا تجربة الملاحقة والاحتجاز التي كانت أحد أسباب هجرتهم عن أوطانهم وبيوتهم.