الخميس 2016/10/27

تجهيل نظام الأسد للمدن الثائرة … تدمير من نوع آخر ..

بدأت الثورة السّورية منذُ أكثر من خمسِ سنواتٍ ، وفي منتصف عام 2012 توقفت الحياة المدنية كلياً في معظمِ المحافظاتِ الثائرة، وبدأ القصفُ الّذي أدى إلى تعطيل كافة مظاهر الحياة فيها ، ففي محافظة دير الزور مثلاً ، ثمة 1311 مدرسةً ( بحسب إحصائية حصلتُ عليها من خلال جولة في مدارس الريف ) ، كنت مهتماً إلى حدٍّ كبير بالتعليم رغم أني انخرطت في معظم مجالات الثورة ، ولا سيما المجال الإعلامي، وما دفعني إلى ذلك هو التجاهل المخيف لهذا الجانب، فالانشغال بالحرب جعل الكثيرين يرون أن التعليم قضية ثانوية ، ولا داعيَ للتفكير بها في الوقت الراهن، ولا حاجة لوضع الخطط ورسم الاستراتيجيات لأجلها.

كنت أراقب أطفالاً لا يشعرون بالظلم الواقع عليهم، أراهم كيف يصنعون بنادق من خشب ، وقد استحوذت الحرب على جميع جوانب الطفولة في شخصيتهم، طفولتنا مختلفة عن طفولتهم فهم لا يرتدون كل صباح زي المدرسة ولا يكوِّنونَ علاقاتٍ اجتماعيّةً من مقاعد الدراسة، ولا ينهلون خُلاصةَ ما تعلمه مدرِّسوهم في المعاهد والجامعات، رغم تردي التعليم قبل الثورة ، لكنه كان على أية حال "واقعاً تربوياً" يفي بالغرض، فإن قصَّرت المدرسة ساندها البيت، لكننا اليوم وصلنا إلى انهيار تام وقصف ببراميل خبث ممنهجة ، دمرت غد أبنائنا ، كما دمرت مدننا ، فمن أصل 1311 مدرسة ، بقي 11مَدرَسةً فقط في الخدمة الآن !، وهي ليست كما يجب .. فمن خلال الجولات التي قمت بها في مناطق دير الزور ، والدراسات المفصلة التي أجريتها في المحافظة ، وكذلك في مدينة شانلي أورفا التركية التي أقمت فيها عاماً وثلاثة أشهر ، وكانت تأوي 500 ألف سوري ،يداوم 25% من أبنائهم فقط في مدارس معظمها لا تستحق أن يطلق عليها اسم مدرسة ، فالكثير منها قد افتتح ليكون مصدراً للرزق بشكل أو بآخر، كل هذه التجارب عرفت من خلالها أدق التفاصيل في هذا الجانب، ويبقى السؤال من السبب؟؟ ولماذا؟؟وما الهدف؟؟؟ تطول الإجابة التي سأختصرها في السطور التالية :

أولاً: من السبب؟

الأسباب حقيقةً تكاد لا تحصى ، لكن السبب الرئيسي هو النظام، فالنظام بكلّ مكرٍ طلبَ من المعلمين والكوادر الإدارية الاستمرار في أداء واجبهم طوعاً ، وإن خرجوا فرواتبهم لن تنقطع ، وانهال عليهم بشتى أنواع القصف من هاون وراجمات وبراميل استهدفت المدارس أكثر من غيرها، فكان قرار المعلمين بالخروج أمراً طبيعيا، فجميع المدارس الواقعة في المدينة مثلا خرجت عن الخدمة كلياً أو جزئياً، ومنها ما سُوِّيَ مع الأرض، أما في الريف فالأمر مختلف قليلاً ، فالمدارس لا يصلها قصف الهاون أو المدفع ، ولذلك لم تخرج عن الخدمة، لكنها مدارس غير مراقَبة ، ففي جولات في الريف زرت خلالها الكثير من المدارس، وقد طلبت مني الهيئة السورية للتربية والتعليم حينها إحصائية احتياجات ( طبعاً لم يُلبَّ منها أي شيء ) ، عندما كنت أدخل إلى مدرسة ثانوية مثلاً كنت أظن أنني سوف أرى صفوقاً أحدها يغوص في معاني قصيدة من العصر الجاهلي، والآخر يحلل اللوغريتمات، وآخر يستمتع فيه المعلم بتنافس الطلاب على حل معادلات ومسائل في الفيزياء والكيمياء، لكني عندما أصل إلى المدرسة أجد جميع طلابها في "الباحة" ، ومعظمهم إناث لأن الذكور قد انخرطوا إما في الحرب أو في عمليات غسيل الأموال الناتجة عنها (كالنفط وغيره)، دخلت إلى الإدارة وجدت المدير ومعلماً من القرية فقط، عرَّفت عن نفسي وبدأ المدير يسرد احتياجات مدرسته التي تفتقر إلى كل شيء بما في ذلك الكتاب والمعلّم، فقد كانت المدارس الميدانية التي أنشئت في المدينة تعج بالطلاب والمعلمين أكثر من مدارسهم ، ولا أنكر دور الهيئات التربوية في محاولة إنقاذ العملية التربوية دون جدوى فقد اتّسع الخرق على الراقع سألت المدير:

أين المدرسون ؟ فأجابني كالتالي.. إذا أخذت راتباً دون دوام هل تداوم؟ لم استطع الإجابة أمام مدير تعب من تسيّبٍ تشجِّع عليه "مديرية التربية" التي تتبع لها تلك المدارس، واعطاني سراً وبَرَّأَ نفسه، قال لي: في الابتدائيات يقوم معظم المديرين بتعيين أقاربهم وكلاء دون أن يداوموا ، و وصف الأمر بأنه (تنفيعة) ، وبعضهم يعيّن وكلاءَ ويأخذ هو مرتباتهم والتربية تعلم بذلك كلّه.

قد تتساءل لماذا يتكبد النظام هذه المبالغ كمرتبات ولا يكلّف نفسَه بإرسال كتاب مدرسي إلى تلك المدارس رغم أنه أرسل كميات قليلة جداً إلى بعض المدارس، هنا سيتبادر لذهننا أنَّ المدارس الموجودة في مناطق سيطرة النظام أحسنُ حالاً من غيرها ، لكن للأسف ليست بأحسن منها، فالمقصد عند النظام عام ألا وهو تجهيل المدن الثائرة، رغم أنّي ما رأيت تلك المدارس ، إلّا أني أسمع عن الغش والتَّسيب وتَدَخُّل عناصرِ "الجيش الوطني" والمخابرات ، ودخولهم إلى قاعات الامتحان مع عجز الإداريين عن منعهم.

السبب الآخر وهو انخراط كثير من الطلاب في الأعمال العسكرية، وبالتالي تركهم مقاعد الدراسة، إضافة إلى محاربة بعض قادة الفصائل ، للتعليم ففي حوار مع قائد فصيل عسكري كنت حينها أعمل معه كإعلامي ، انشغلت لأيام عنه في العمل بإحدى المدارس الجديدة وكانت مدرسة قائمة بجهود ذاتية، قال لي: هذا ليس الوقت المناسب للمدارس، الأمة تقوم بالجهاد وليس بالتعليم، عجزت عن الإجابة على كلام ترى فيه تحطمياً واضحاً لأهدافك التي رسمتها بعد إسقاط الطاغية، ومَن هذا الرجل ليطلق تصريحاً كهذا!!، لكنه بالنتيجة كان قائداً وله كلمته، ويواجه بجهله وحماقته خبث النظام وخططه الرامية إلى طمسنا حضارياً وعلمياً، فممارسات النظام الطائفية تسعى لتمزيق الأكثرية الثائرة بشتى الوسائل.

ثانيا: لماذا؟؟

كان النظام يطرد من الجيش والمخابرات معظم أبناء الأكثرية السُنِّيّة ولديه بذلك الكثير من المبررات، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، والخوف من الخيانة وغير ذلك من التهم المُعلّبة، هذا النظام الذي يمسك الجيش والأفرع الأمنية بقبضة من حديد لا يستطيع أن يمسك الجامعات والمعاهد بنفس تلك القبضة رغم رقابته الشديدة عليها، فهو لا يستطيع مثلاً تسريح طالب متفوّق من الجامعة بحجّة أمن الوطن، وعند انطلاق الثورة ساندها عدد جيد من المفكرين والأكاديميين فكان لهم بعض الثقل على الأقل قبل أن يرتفع صوت البندقية فوق كل صوت، فرأى النظام أن يحلَّ هذه القضية من جذورها ، فهو لا يريد أن يَخرج من هذه الأكثرية رجلٌ رشيدٌ لكي يبقى يسوقهم كرعاع لا يجيدون إلا التصفيق، بالمقابل يصنع في المناطق الموالية له نخباً تصفق له أيضاً، وأتذكر قول الكواكبي: (والعوام صبية أيتام نيام لا يعلمون شيئا والعلماء أخوتهم الراشدون الذين إن أيقظوهم هبوا وإن دعوهم لبوا)
وبهذا لن يوقظ العالمُ عوامَ الناس إلا على التصفيق ويبقى بذلك لا غالب إلا الظلم.

ثالثاً: ما الهدف:

الهدف إنشاء طبقتين متمايزتين، فبعد سنوات ستستقبل الجامعات التي تعتمد على التفاضل حسب عدد المتقدمين الكثير من طلاب المناطق الموالية، وسيكونون مهندسين يبنون، وأطباء يعالجون، وأساتذة يعلمون، وسيكون أبناء المناطق الثائرة مواطنين من الدرجة العاشرة..

وستتكون نظرة وقناعة لدى هؤلاء الذين حُرِموا من التعليم أنَّ سكان المناطق الموالية لديهم جينات راقية وذكاء مميز، فيدفعهم هذا إلى تقليدهم في كل شيء حتى في طريقة حياتهم وقناعاتهم فهم المهندسون والأطباء والمعلمون، ونحن الرعاع والكادحون وبالتالي ستتكون طبقتين لا ثالث لهما .. متعلمين وجَهَلة ...