الأحد 2018/08/05

انسحاب إيران من سوريا.. بين الواقع والمراوغة

ليس مستغرباً أن يتبع القادة الإيرانيون نفس أسلوب الإدارة الأميركية في الخطابات والتصريحات، من حيث إعطاء إشارات مختلفة ومتعاكسة أحياناً حول مجمل القضايا والمواقف السياسية.

قال ترامب يوم الثلاثاء 31 تموز-يوليو الماضي إنه مستعد للقاء الإيرانيين دون شروط مسبقة، وذلك قبل أيام قليلة على موعد بدء تطبيق العقوبات الأميركية على طهران. وهنا صدر عن المسؤولين الإيرانيين عدة تصريحات متضاربة، بعضها أعلن قبوله بمبدأ الحوار، والآخر اعتبر التفاوض "مع الشيطان الأكبر" خيانة.

إستراتيجية "جس النبض" عبر إعطاء إشارات مختلفة أو متعاكسة، هذا بالضبط ما يقوم به الإيرانيون لمواجهة الأسلوب نفسه الذي يفضّله الأميركيون. طالما أن الميدان للخطابات والحرب الكلامية فلا بأس من خلط الأوراق لدى الخصوم عبر تصريحات المسؤولين.

بالأمس 4 آب- أغسطس، أفاد الناطق باسم الخارجية الايرانية بهرام قاسمي أن بلاده مستعدة لإنهاء وجودها في سوريا "إذا شعرت بتوفر استقرار نسبي هناك، وأنهت مهمة القضاء على الإرهاب". جاء هذا التصريح بعد خطابات وضع فيها سياسيو إيران وعسكريّوها عناوين عريضة تلخّص تعاملهم مع ملف الوجود بسوريا:

1- جئنا بطلب من الحكومة الشرعية ولن نرحل إلا بطلب منها.

2- وجودنا في سوريا ينطلق من مصالح لنا الحق في الحصول عليها كما لروسيا الحق في ذلك.

3- على الآخرين الذين دخلوا دون إذن دمشق أن يخرجوا (في إشارة إلى القوات الأميركية)

فهل يعد تصريح "قاسمي" الأخير دالاً على تبدُّل ما في موقف إيران من الوجود في سوريا؟ هل بدأت طهران ترضخ لتأثير العقوبات قبل بدئها؟ أم إن الموضوع لا يعدو كونه "تكتيكاً كلامياً" فقط؟

طهران بين مطالب بومبيو وخطوط نتنياهو الحمراء:

عرضت واشنطن على إيران 12 مطلباً يجب تنفيذها، وإلا فإنها ستواجه "العقوبات الأقسى في التاريخ"، ومن ضمن تلك المطالب الخروج من سوريا.

في الواقع فإن واشنطن غير مهتمّة ببقاء إيران في سوريا أو خروجها منها، فهي التي سمحت لها - برضا غير معلن - بالتغلغل هناك وإنشاء قواعد عسكرية وتأسيس مليشيات طائفية تُقدّر أعدادها بعشرات الآلاف، لكن صاحب الطلب الحقيقي هو "بنيامين نتنياهو" الذي وجد أن الوقت قد حان لإيقاف طموح إيران في سوريا.

قام رئيس الوزراء الإسرائيلي بإجراء حوارات مكّوكية مع المسؤولين الروس وعلى رأسهم بوتين، تتعلق برفض تل أبيب أي وجود إيراني عسكري في سوريا، وليس فقط عند الحدود الإسرائيلية، ويبدو أن الأسد أعطي ضوءاً أخضر إسرائيلياً للقيام بمعركة الجنوب السوري، بعد ضمانات روسية بأن القوات الإيرانية لن تشارك في المعركة.

غضّت إسرائيل الطرف عن مشاركة مليشيات تابعة لإيران في معركة الجنوب السريعة، ثم لم تلبث أن أعلنت تمسكها بشرط انسحاب إيران من كامل الأراضي السورية وليس فقط المنطقة الحدودية معها، وفي نفس الوقت واصلت تل أبيب قصف مواقع تعتبرها قواعد متقدمة لإيران في سوريا.

المفاجأة كانت في الاستجابة الإيرانية للطلب الروسي الإسرائيلي، حول الابتعاد عن حدود الجولان لمسافة 85 كيلومتراً، بالتزامن مع ترحيب تل أبيب بالعودة إلى اتفاقية فض الاشتباك الموقعة عام 1974، وتأكيدها أنها تفضّل عودة الأسد إلى "حماية حدودها" فهو الذي "لم يطلق رصاصة واحدة على إسرائيل منذ عقود" بحسب تصريحات نتنياهو.

هذان الحدثان ( انسحاب إيران وترحيب تل أبيب بمجاورة الأسد) لعلهما يُسقِطان آخر ورقة توت كانت تغطّي كذبة "المقاومة والممانعة" التي تاجر بها نظاما الأسد والولي الفقيه، فكيف تدَّعي إيران أن غرضها من التدخل في سوريا "تحرير الجولان والقدس" ثم تنسحب مسافة 85 كليومتراً عن الحدود مع "العدو الصهيوني"؟، ولماذا يبيع بشار "حشيش الممانعة" ما دام "العدو الصهيوني" لم يجد منذ السبعينات أفضل منه لحراسه الحدود وهدوئها؟

سيناريو الانسحاب الإيراني من سوريا:

إسرائيل لا يكفيها انكفاء إيران عن الحدود، هي تريد انسحاباً كاملاً للقوات الإيرانية من كامل التراب السوري، وواشنطن تكرر مطالب تل أبيب حرفاً بحرف.

قد يكون تصريح "بهرام قاسمي" حول "الانسحاب في حال استقرار الأمور" رسالة لإسرائيل وإدارة ترامب، مفادها أن وجودنا في سوريا قابل للمساومة والتفاوض وليس خطاً أحمر – كما كان في وقت سابق - . يأتي هذا قُبيل بدء تطبيق العقوبات الأميركية "الأقسى في التاريخ" ضد طهران، وسط غليان شعبي للإيرانيين على تردي الأوضاع الاقتصادية وانخفاض قيمة الريال إلى مستويات غير مسبوقة، ما قد يدفع إيران بالفعل إلى تقديم "تنازلات مؤلمة" قد يكون انسحابها من سوريا إحداها.

المستشرق الروسي أوليغ غوشين قال لصحيفة "سفوبودنايا بريسا" الروسية في 27 تموز- يوليو الماضي: "ربما تعرض روسيا على إيران أنبوباً عبر العراق وسوريا إلى البحر الأبيض المتوسط. لا يهم ما إذا كان أنبوب غاز أم نفط، كلاهما مُغرٍ جداً لطهران". ربما هذا هو الثمن الذي تريده إيران مقابل انسحاب تدريجي من سوريا، يبدأ بالمرحلة الأولى بإخلاء المواقع بمسافة 85 كيلومتراً عن الحدود مع الجولان، ثم في مرحلة تالية عبر إخلاء قواعد عسكرية ومطارات تستخدمها القوات الإيرانية كمراكز تسليح وتجنيد في سوريا.

إيران على المستوى العسكري والسياسي حقّقت ما تريده في سوريا، واستطاعت فرض نفسها هناك كقوة إقليميّة مؤثرة، وبات بإمكانها استخدام "الملف السوري" – إضافة إلى اليمني والعراقي- ورقة ضغط في أي مفاوضات تتعلق ببرنامجها النووي ومصالحها الاقتصادية.

مراوغة سياسية فقط:

على الجانب الآخر يرى مراقبون أن تصريحات "قاسمي" لا تعدو كونها جزءاً من مراوغاتها السياسية المعتادة، فسوريا لم تعُد بالنسبة لإيران ملفاً عابراً يمكن المقايضة عليه، بل إن الوجود الإيراني في سوريا بات واقعاً فرضته ثماني سنوات من الحرب، استطاعت عبرها إيران تثبيت أقدامها هناك.

ربما يميل بعض الساسة الإصلاحيين في إيران إلى التفاوض حول سوريا، لكن بالمقابل يقف المحافظون والمؤسسة العسكرية – ومنها الحرس الثوري –في وجه أي محادثات يمكن أن تُظهر خضوع إيران للتهديدات الأميركية، ولا سيما أن هؤلاء يرون أن إيران قدمت في سوريا مليارات الدولارات، وبذلت دماء في سبيل الوصول إلى ما وصلت إليه.

أيضاً.. إذا كان الانسحاب من سوريا جزءاً من سياسة "الانحناء" لعاصفة عقوبات ترامب، فكيف يمكن التعامل مع بقية المطالب المتعلّقة باليمن والعراق وحزب الله وحماس؟ هل ستنحني إيران لتلك المطالب بالجملة

من ناحية ثانية.. ربط قاسمي انسحاب إيران من سوريا بما سمّاه "توفر الهدوء" هناك و "نهاية الإرهاب" وهو في الحقيقة شرط فضفاض جداً، ليس له حد زمني من ناحية، ولا يمكن أن يتوفر خلال سنوات قليلة من ناحية ثانية. لهذه الأسباب يقول المحللون إن التصريحات الإيرانية حول الانسحاب من سوريا مجرد مراوغات سياسية غير قابلة للتطبيق.