الجمعة 2016/09/30

الهلال الشيعي.. مشروع إيراني أم أمريكي؟

أواخر العام 2004 وبعيد الغزو الأمريكي للعراق وإسقاط نظام صدام حسين، أطلق ملك الأردن عبد الله الثاني تحذيرات مدوية عبر صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية هزت الشرق الأوسط، حذر الملك عبد الله خلالها من وصول حكومة موالية لإيران إلى السلطة في بغداد، تعمل بالتعاون مع طهران ودمشق “لإنشاء هلال يخضع للنفوذ الشيعي يمتد إلى لبنان ويخل بالتوازن التقليدي بين الشيعة والسنة”، حينها تبنى الملك عبدالله اتهامات واشنطن لسوريا بـ”تدريب مقاتلين أجانب يعبرون إلى العراق”، وهي تصريحات تقاطعت مع ما نقلته الصحيفة الأمريكية عن مسؤولين في الإدارة الأمريكية تقول إن بعثيين من النظام العراقي السابق “يوجهون من سوريا عمليات المقاتلين” ويجمعون لهم التبرعات من أوروبا ودول عربية.

جغرافية ذلك الهلال تمتد من اليمن إلى القطيف في السعودية إلى البحرين إلى العراق وسوريا فالضاحية الجنوبية. هلال سيبدو صادمًا إن قلنا إن الولايات المتحدة بدأت بتنفيذه عندما حطت طائرة فرنسية في طهران، يرافقها طاقم من الحماية الأمنية الأمريكية في العام 1979، عندما فتحت تلك الطائرة أبوابها ترجل عن صهوتها السيد روح الله بن مصطفى بن أحمد الموسوي الخميني قائد الثورة الإسلامية الإيرانية؛ ثورة ستغير خارطة الشرق الأوسط لعقود قادمة، هو ذاته الرجل الذي سمته مجلة التايم الأمريكية حينها بـ”رجل العام” 1979.

في رحلتنا لتتبع الدور الأمريكي الخفي في وصول الخميني قائد الثورة التي صبغت إيران “المتحررة” بالصبغة “الدينية/الشيعية” سيقودنا للتعرف على دهاليزها قائد الدبلوماسية الأمريكية حينها وهو سايروس فانس وزير خارجية الولايات المتحدة في عهد الرئيس جيمي كارتر من 1977 إلى 1980، هي ذاتها الفترة التي شهدت الصعود الصاروخي لقائد الثورة الإيرانية، وهي ذات الفترة التي يوثقها فانس في مذكراته.

كان سايروس فانس واحدًا من مجموعة لا يزيد عددهم عن العشرة في مركز القرار الأمريكي، بما في ذلك الرئيس كارتر، اتخذوا قرار عزل شاه إيران، على الرغم من أن أمريكا هي التي كانت قد وصلت بالشاه محمد رضا بهلوي إلى السلطة في إيران سنة 1953.

علم الشاه بدنو أجله عندما شنت الصحافة الأمريكية حملة عليه ووصفته حينها بـ “المستبد” وتشكلت لجنة في الكونغرس لتوثيق انتهاكاته، كانت لعبة حقوق الإنسان في إيران هي مدخل للإطاحة بآخر شاهات إيران لتبدأ بعدها صفحة جديدة في تاريخ إيران والعالم.

يقول فانس في مذكراته ص118: “في 3 كانون الثاني (يناير) 1979، أرسل سفير الولايات المتحدة في إيران بين العامي 1977 و1979 “لإطلاعي فقط” برسالة شخصية تقول إنه “بالنسبة للولايات المتحدة قد حلت ساعة الحقيقة في إيران” وأن “المصالح الأمريكية، كما مصالح إيران، تتطلب أن يغادر الشاه فورًا” وقد قَبِلت بما استخلصه سوليفان. أما “آية الله” (كما يحرص فانس على تسميته دائمًا) فإنه وبعد إخراجه من العراق “ذهب إلى باريس حيث جمع حوله حاشية من المؤيدين الدينيين والسياسيين واستخدم استخدامًا كاملًا وسائل الاتصال الممتازة المتاحة في باريس ليسيطر على المظاهرات في إيران”.

وفي 6 كانون الثاني (يناير) 1979، أوضحت تقارير سوليفان أن “الجنرالات يريدوننا أن نتصل بالخميني مباشرة”، والمقصود طبعًا الجنرالات التي كانت وكالة المخابرات المركزية قد جندتهم من وراء ظهر الشاه”.

لكن عملية إخراج الخميني من العراق من قبضة صدام الحانق عليه لم تكن سهلة وكانت بحاجة إلى دهاء سياسي مارسته فرنسا وأمريكا على صدام، وإن كان قرار عزل الشاه قرارًا أمريكيًا بامتياز وهو أمر يعرفه الكثيرون، إلا أن ما لا يعرفه الكثيرون هو أن الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك، يكشف في مذكراته التي حملت حملت عنوان “كل خطوة يجب أن تكون هدفًا” سرًا مفاده أن الرئيس العراقي صدام حسين الذي أبعد “آية الله الخميني” عن منفاه العراقي، نصح شيراك (رئيس وزراء فرنسا حينها)، عبر رسالة نقلها السفير العراقي في باريس، بألا يمنح اللجوء للخميني.

كان تحذير صدام كالتالي: “احذروا جيدًا، اتركوه يتوجه إلى ليبيا، لأن ما سيصرح به في فرنسا سيكون له صدى دولي مدوٍّ، في حين أن ما سيقوله في ليبيا، لن يسمعه أحد”.

وكتتمة لما ذكره شيراك في مذكراته نكتشف من كلام وزير خارجية أمريكا فانس في مذكراته “أن الاتفاق تم مع صدام حسين “بطرد” الخميني من العراق وليس “سجنه” أو “تصفيته”، وقرار الطرد ذلك هو الذي قاد “الخميني” إلى باريس التي فتحت له أبوابها للنشاط الإعلامي والتأثير على المتظاهرين في إيران ضد حكم الشاه. وهكذا فإن أحدًا لم يأخذ بنصيحة صدام لا بل على العكس فإن الخميني الذي اتخذ من فرنسا كبلد لجوء، وأقام في قرية صغيرة بالقرب من باريس خلال هذه الأشهر الأربعة، كان يعطي للإعلام مقابلة صحفية وتلفزيونية وكانت خلية الأزمة الإيرانية في البيت الأبيض تضع اللمسات الأخيرة على تنصيبه حاكمًا، بديلًا عن الشاه، وكانت أجهزة المخابرات الفرنسية والأمريكية تساعده على تسجيل تصريحات الخميني على أشرطة “كاسيت” وتوزيع مئات آلاف النسخ على الشعب الإيراني في داخل إيران.

ليبدو لنا من سير الأحداث أن خطوة طرده من العراق واستقراره في باريس كانت حماية لحياته أكثر من كونها حادثة طرد دبلوماسي. لا بل أكثر من ذلك فإن فانس في مذكراته حاول أن يبرأ الخميني من حادثة خطف الرهائن الأمريكيين في إيران واصفًا إياه بالشخصية بـ”الزعيم الحازم”.

في المقابل، كانت مذكرات فانس تحاول إبراز أن الولايات المتحدة ظاهريًا كانت تدعم الشاه حتى اللحظات الأخيرة وتعطيه فرصة للبقاء وأنها تحاول الظهور أمام العالم بأنها لا تريد أن تتدخل بالشأن الداخلي، في حين كانت في الخفاء تمهد الطريق أمام الخميني للوصول إلى عرش الحكم في إيران، وهكذا يظهر لنا أن هذا الخيار كان هو الاستراتيجية التي تعمل عليها الولايات المتحدة كما يشي سلوك الإدارة الأمريكية والتي تتلخص بالعمل على الإطاحة بـ”الشاه المتغطرس كما وصفه فانس ص 102″ لكونه فقد سيطرته على الأرض، وتآكلت سلطته” وكانت كل نصائح أمريكا حينها للشاه تدفعه إلى استخدام القوة المفرطة لكنه رفض ذلك وبشدة لدرجة أنه أعلن صراحة في لقائه مع سفير أمريكا في طهران سوليفان كانون الأول/ديسمبر 1979″ أنه يخشى أن تؤدي القبضة الحديدية إلى تفكيك الجيش وإيران، وأنه اختار الاستسلام للمعارضة”. هذا الأمر دعا أمريكا للتفكير بـ”انقلاب عسكري” يفضل أن يكون تأييدًا للشاه باعتباره الأمل الوحيد لحماية المصالح الأمريكية