الأحد 2019/08/04

اللاجئون السوريون.. من ضحايا إلى “ورقة رابحة” للأسد

في الثاني والعشرين من شهر تموز يوليو الماضي، أرسل "بابا الفاتيكان" مبعوثاً إلى "بشار الأسد" في دمشق، لنقل رسالة خطّية من ستة طلبات سلّمها المبعوث البابوي للديكتاتور السفاح، وكان من ضمن قائمة الطلبات، العمل على تسهيل عودة اللاجئين السوريين في "ظروف آمنة".

لعل "بشار الأسد" من أوفر السفّاحين حظاً، حين استطاع تحويل محور الاهتمام الدولي في سوريا، من المطالبة برحيله، إلى مجرّد استجدائه من أجل عودة نحو 6 ملايين شخص فروا هرباً من آلته العسكرية ومجازره الرهيبة.

ليست المطالبة فقط من قبل الأنظمة السياسية التي تدعم بقاءه في السلطة، أو تلك التي لم تعُد تطالب برحيله، بل من كيان ديني قائم على حكم الكنيسة الكاثوليكية في "دولة الفاتيكان".

على الرغم من أن رسالة "البابا فرنسيس الأول" تضمّنت حديثاً عن "قلق" الفاتيكان من الأوضاع الحالية في محافظة إدلب، إلا أن مراقبين قالوا إن الرسالة بحدّ ذاتها تمثّل اعترافاً ضمنياً بشرعية حاكم قاتل، من قبل دولة طالبته أكثر من مرة بالتنحّي،  في الوقت الذي أصبحت فيه إعادة اللاجئين السوريين، خطوة مهمة نحو إعادة إنتاجه والاعتراف ببقائه على جماجم نحو مليون شخص، وعلى أنقاض بلاد دمّرتها آلته وآلة حلفائه العسكرية.

ليس المقام هنا للحديث عن موقف دولة مثل "الفاتيكان" من الملف السوري، فمن نافلة القول أن أطرافاً كثيرة "بدّلت جلدها" خلال العامين الماضيين، ولم يعد الحديث عن أي مواقف سابقة مُجدِياً، في ظل توجّه دولي "غير معلن" نحو إقفال باب المأساة السورية النازفة، على حساب الضحايا؛ إنما يستهدف الحديث هنا تسليط الضوء على انحراف خطير إزاء ملف اللاجئين السوريين في دول الجوار والعالم.

الفشل الروسي في إعادة اللاجئين:

بات من المعلوم أن روسيا تبحث اليوم عن فرصة ضيّقة لتكون "راعية السلام" في سوريا، بعد أن ساعدت الأسد على قلب موازين الحرب، وتبادلت الأدوار معه في تنفيذ مئات المجازر بالمدن السورية المحررة، وتدرك موسكو جيداً أن أي حديث عن "السلام" بسوريا، يستلزم بشكل حتمي فاتورة مادية تفوق بكثير ما أنفقته منذ تدخّلها العسكري المباشر هناك في أيلول -سبتمبر 2015، فكان لا بد لها من استغلال "ملف اللاجئين" لتهديد أوروبا ودول الجوار، بواسطة عملياتها العسكرية المتواصلة. وفي هذا السياق أكّدت الدول الغربية أنها لن تدفع أي مبلغ لإعادة إعمار سوريا إلا بعد حل إشكالية "التهديد" الذي يشكّله اللاجئون، ولا سيما بعد صعود أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا.

وهنا بدأت الوفود الروسية مهمتها من دول جوار سوريا، عبر زيارات مكثفة إلى الأردن ولبنان وتركيا، لإقناع هذه الدول بضرورة التعاون من أجل إعادة اللاجئين السوريين، تحت وعود وتطمينات بأن تكون العودة "آمنة"، وخلال العام 2018 روّجت الآلة الإعلامية الروسية لعودة اللاجئين وسيناريوهات نقلهم من أماكن وجودهم إلى سوريا، غير أن هذه الخطة اصطدمت برفض تام للاجئين العودة تحت أي ظرف، إلا بعد زوال الأسباب التي أدت إلى مغادرة ديارهم.. وعلى رأسها بشار الأسد.

وتزامن الفشل الروسي مع تقارير صحفية وحقوقية روت قصصاً للاجئين غرّتهم وعود موسكو، وداعبتهم أحلام "العودة الآمنة"، فلم يكن أمامهم إلا ما سمّته مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية في إحدى تقاريرها بـ"الترحيب المميت"، حيث اعتُقل بعض هؤلاء ولا يزال مصيره مجهولاً إلى اليوم، في ظل استمرار نفس "العقلية الأمنية" للنظام، وعدم حدوث أي تبديل فيها خلال السنوات الماضية.

موقف نظام الأسد من عودة اللاجئين:

يضاف إلى هذا، أن الرغبة الروسية بإعادة اللاجئين اصطدمت كذلك بموقف غير معلن من قبل الأسد وإيران، يرفض تلك العودة بسبب معطيات عديدة، أهمها:

1- العقلية الأمنية لنظام الأسد لا تزال هي المهيمنة على سلوكه تجاه السوريين، وبالتالي فهو ينظر إلى اللاجئين على أنهم "خائنون"، وتجلّى هذا منذ وقت طويل عبر خطاب لبشار الأسد في 27 تموز 2015 قال فيه إن "سوريا لمن يدافع عنها أياً كانت جنسيته"، في إشارة إلى المليشيات الإيرانية متعددة الجنسيات التي تقاتل مع قواته، والتي اعتبرها صاحبة أولوية في سوريا على الذين غادروها.

ولا يمكن هنا أن ننسى التهديدات الصريحة للضابط السفاح في قوات الأسد "عصام زهر الدين"، حين صرح على إحدى فضائيات النظام على الهواء مباشرة قبل مقتله بأيام، مخاطباً اللاجئين بتلك العبارة المشهورة: "نصيحة من هالدقن لا ترجعوا".

2- يقودنا ذلك إلى خطاب آخر لبشار الأسد 20-8-2017، تحدث فيه عما سماه "المجتمع السوري المتجانس"، قاصداً به السوريين الذين ظلوا بمناطق سيطرته ولم ينزحوا إلى المناطق التي تسيطر عليها المعارضة أو خارج البلاد.

بغض النظر عن الأبحاث الكثيرة التي كُتبت عن "مفهوم التجانس" لدى الأسد، فإن المفهوم يعني ببساطة، أن الملايين التي يحكمها لم تعد مصدر خوف أو قلق الآن أو في المستقبل، بعد أن سلّمت بـ"نجاح الحل العسكري" بقمع السوريين، وبات هؤلاء بنظر النظام "مواطنين صالحين"، لا يمكن أن يفكّروا بالتمرد عليه مهما حصل.

إن عودة اللاجئين الذي عاشوا حياة مختلفة في دول المهجر، تهدّد بشكل كبير مفهوم "سوريا المتجانسة"، ولا سيما أن معظم هؤلاء لا يؤمنون أصلاً ببقاء بشار في الحكم بعد الكارثة التي ألحقها بهم وببلادهم.

3- وجود نحو 6 ملايين لاجئ سوري خارج البلاد، يعني من زاوية ثانية باباً من أبواب التمويل التي يعتمد عليها نظام الأسد في أزمته الاقتصادية.

يعتمد نحو 80% من السوريين في مناطق النظام على التحويلات الخارجية من ذويهم وأقربائهم وأصدقائهم، وهذا ما يجلب للنظام مبالغ خيالية تدخل خزينته وتساعده على الصمود، وعلى الرغم من أن "البنك المركزي" لم يكشف حجم مبالغ التحويلات الخارجية، إلا أن صحيفة "الوطن" الموالية كشفت في العام 2017،  أن متوسط قيمة الحوالات اليومية يقدّر بنحو 4 ملايين دولار يومياً، فيما قال تقرير للبنك الدولي إن التحويلات الخارجية إلى سوريا بلغت نحو 4.5 ملايين دولار يومياً.

هذا بالإضافة إلى مبالغ تفوق نسبة التحويلات الخارجية، يحصّلها نظام الأسد من معاملات الأوراق الثبوتية وجوازات السفر للاجئين السوريين في دول المهجر.

يدرك نظام الأسد جيداً أن عودة اللاجئين ستحرمه من هذا المورد المالي الهائل، بالإضافة إلى أن العائدين سيفاقمون أزمة النظام المتمثلة بنقص الوقود وغلاء الأسعار والانكماش الاقتصادي.

4- أما إيران فتنظر إلى عودة اللاجئين السوريين من جانب آخر، يتمثّل بمشروعها الإيديولوجي في سوريا، القائم على نشر فكر التشيع و"تصدير ثورة الخميني"، ولا شك أن عودة نحو 6 ملايين شخص، ستقف حجر عثرة كبيراً أمام هذا المشروع القائم أصلاً على استغلال الفوضى، وابتزاز الوضع الاقتصادي المتردي للمناطق التي تسيطر عليها مليشياتها متعددة الجنسيات.

5- إضافة إلى الأسباب السابقة، فإن بقاء ملف اللاجئين معلّقاً يعني بالنسبة لنظام الأسد الاحتفاظ بورقة ضغط على دول الجوار، التي بدأ اللجوء السوري يسبب لها "صداعاً مزمناً"، مع تطاول مدة الحرب وانسداد أي أفق لحل قريب، وفي هذا البند تحديداً تلتقي رؤية نظام الأسد مع رؤية موسكو، التي طالما اعتبرت اللاجئين إحدى أدواتها للضغط على الدول المضيفة.

 تكتيك آخر في المشروع الروسي:

 الحقيقة أن موسكو لا تعنيها الأسباب السابقة من قريب أو من بعيد، فكل ما يهمّها هو الحصول على أموال إعادة الإعمار، لتعويض خسائرها المفتوحة منذ 2015 من جهة، ولتثبيت أركانها في سوريا بغضّ النظر عن شكل الحكومة القادمة.

يبدو أن روسيا اضطُرت للتعامل مع الملف من منظور مختلف، بعد فشلها خلال أشهر في الترويج لعودة اللاجئين، ويُخشى من أنها توجّهت للدول المضيفة، بالتضييق على السوريين لـ"إجبارهم" على العودة لا "إقناعهم"، ويؤيد ذلك التضييق الممنهج على اللاجئين السوريين في لبنان، ثم بدء إجراءات تضييقية كذلك في تركيا، دون إيلاء أهمية لمصير العائدين، ومع اختلاف مفهوم "التضييق" بين تركيا ولبنان، فإن المحصلة أن ملف اللجوء انتقل من مفهوم إنساني بحت إلى ورقة سياسية استغلتها روسيا باللعب على وتر الأزمات التي تعيشها الدول المضيفة، والترويج بأن السوريين جزء مؤثر في تلك الأزمات.

من ضحايا إلى "ورقة رابحة":

فرّ نحو 6 مليون سوري من بلادهم على وقع أسباب خارجة عن إرادتهم، يتعلق معظمها بالضربات العسكرية من قبل روسيا ونظام الأسد، أو الخوف من الملاحقة الأمنية والتجنيد الإجباري، إضافة إلى أسباب أخرى، وبالمحصلة فإن الأسباب التي دفعت السوريين إلى اللجوء لا تزال قائمة، بل إنها اليوم أقوى من ذي قبل في ظل سيطرة النظام على مناطق واسعة ظلت تشكّل لسنوات شوكة في حلقه، وما يعنيه هذا من دافع الانتقام المغروس في طبيعة هذا النظام.

رسالة "بابا الفاتيكان" للأسد، التي ربما تعبر عن رأي الغرب عموماً، تجاوزت بشكل عام الأسباب الحقيقية في معالجة ملف اللجوء، وحوّلت الأنظار من اعتبار اللاجئين ضحايا حرب الأسد، إلى مجرّد أشخاص خرجوا من "بيت الطاعة الأسديّ" وانتشروا في دول الجوار ينشرون فيها الأزمات والمشاكل، والآن تحاول تلك الأطراف استجداء الطرف الذي هجّرهم ودمَّر مدنهم وقراهم، ليقبل عودتهم، مع عدم وجود أي ضمانات للحفاظ على حياتهم وكرامتهم، ولا سيما أن القوانين الدولية ترفع يدها عن اللاجئ بمجرد دخوله حدود دولته التي فرّ منها.

الترويج لإعادة اللاجئين السوريين في ظل استمرار الأسباب التي أدت إلى تشرّدهم، لا يمكن إلا أن تكون جريمة أخرى تضاف إلى التواطؤ الدولي غير المعلن مع الأسد خلال السنوات الثماني الماضية. وأشد ما في هذا التواطؤ سوداوية، أن يتلقّى بشار الأسد "استجداءات" لإعادتهم إلى ديارهم "بشكل آمن"، ليظهر في النهاية أن استجابته لتلك "الاستجداءات" تعاون يحسب لصالحه في سبيل إيجاد حل بسوريا.