الأثنين 2016/03/28

الشخرمة والبزرميط ” قراءة في المشهد “

قصتي مع مصر قديمة جدا ؛ مذ كنت طفلا ، ولأن لدي ولعا بالقصص والحكايات ، مذ مشيت على شوك البعث، فإن الدراما و السينما المصرية هيأت لي ذلك ، فكان الشغف نحو المتابعة والتدقيق يتملكني حتى أستسلم لمنطق العمل الفني وأتقمص شخصية أحد الأبطال ، ولا أبالغ إذا زعمت أنني تابعت الفلم الواحد لعشرات المرات، واختزنت في ذاكرتي حوارات طويلة باللهجة المصرية ، ومع طول الأمد ودراستي للأدب ،اكتشفت أن كثيرا من هذه الأفلام والمسلسلات أعمال أدبية؛ لأدباء مرموقين كنجيب محفوظ ، وإحسان عبد القدويس ، وصنع الله ابراهيم ، وطه حسين ،وألفرد فرج ، وجمال الغيطاني ، وغيرهم كثير مما لا مجال لتعداده في هذه العجالة .

ولأن لي ولعا تحول مع الزمن إلى شغف ،وأنضجته الدُّربة والاهتمام، فتحول إلى هيام في كل ما يخص الشأن المصري ، منذ الفراعنة ،مرورا بالبطالمة ، فالأقباط ، فالحكم الإسلامي ، بكل أطواره حتى حكم المماليك ، إلى عصر أحمد عدوية ،وظفيرة بهيج، وسميرة سدرو، وعلي عَلُكَّة، وأشرف كُخة.

وما يميز المصريين في هذا الاستدعاء التاريخي والحضاري عدة أمور أولها: موضوع اللغة ، فترى أن اللغة تجري على ألسنة هؤلاء القوم بسلاسة ،كما يجري عذب الشراب في الحلوق، وترى أن بِنْيتها التركيبية تسمح بقدر هائل من الاشتقاق اللفظي ، الذي يتناسل منه تشقيق معنوي ،لا تستطيع أن تتكهن بحدوده، ويفجؤك المصريون دائما بمفردة جديدة تظن أن لها أفقا محدودا للاستعمال ، ولكنك تكتشف أن تأويلاتها لا نهائية .

أولا : التعريفات :

الشَّخْرَمَة : لا يوجد بين أيدينا معجم اصطلاحات للهجة المصرية ، وسنعتمد في شرح هذا المصطلح ، على العالم اللغوي ابن جني في نظرية الأصوات ، حيث إن الصوت يوحي بالمعاني ، فالشين مع الخاء والراء توحي بشق شيء ما إلى نصفين أو بالتفتيت والتمزيق ، واعتمادي الآخر على أصدقائي المصريين ممن يشتغل في باب اللغة ، ويستطيع بوصفه مصريا أن يؤول هذا الاصطلاح .

وبعد استقراء لمجموعة من الآراء ثبت عندي أن الشَّخْرَمَة : هي نية معقودة مع تخطيط ممنهج لخلق ضرر مستديم لا يمكن دفعه ، أو أن يبرأ منه من وقع تحت مفعول الشخرمة ، وهذه الحالة الحاصلة بعد الاستهداف الشَّخْرمي نسميها بالبَزْرَميط ، ونعني بالبَزْرَميط: حالة الفوضى والاختلاط في المفاهيم ،وعدم القدرة على تفسير الأشياء ووضعها في نصابها الحقيقي؛ فيسيح الحق على الباطل ،ولا تستطيع التمييز بينهما ، وبعبارة أكثر كثافة :إن الإنسان أو المجتمع يتعرض للشخرمة فيصاب بالبزرميط.

وحالة الشَّخْرَمَة التي قمنا بالـتأصيل لها آنفا تعرّض لها المجتمع المصري خاصة والمجتمع العربي عموما ، ولا نستطيع فهم هذه الحالة الشخرمية إلا بفهم الحالة السياسية التي أنتجتها ، ولا نريد تقصي كل حالات الشخرمة التي تعرض لها المجتمع العربي ،ولكن سنذكر بعض الأمثلة لندلل على صواب زعمنا .

فمنذ خمسينيات القرن الماضي قام مجموعة من الضباط في مصر بانقلاب على الحكم الملكي زاعمين أنهم يريدون الانتصار للفقراء وتحرير الأمة من المستعمرين والشروع ببناء اقتصاد ؛قوي وفق النظرية الاشتراكية ، ولكن ما حدث أنهم استولوا على مقدرات البلاد ،وأودعوا في السجون العلماء والمفكرين، وطوقوا التجربة الديمقراطية ، وساهموا في عسكرة المجتمع ،وسلطوا على الناس ماكينة إعلامية جبارة ؛ لتزرع في مخيلتهم أن هؤلاء العسكر هم حماة القومية العربية وأصحاب مشروع نهضوي وتنويري ، على الرغم من أن أي امرئ يريد التدقيق قليلا في هذه المرحلة يجد أن انقلاب عبد الناصر تم بالتنسيق مع المخابرات الأمريكية؛ التي أشرفت على كل الانقلابات في ذلك الوقت؛ منذ انقلاب حسني الزعيم في سوريا وفق مشروع ملء الفراغ في الشرق الأوسط ، الذي جاء به الجنرال الأمريكي أيزنهاور، بعد تراجع الاستعمارين الانكليزي والفرنسي بعد الحرب العالمية الثانية، ومن خلال هذه الشَّخْرَمَة للحالة السياسية وقع المجتمع العربي في بَزْرَميط النكسة 1967.

وبعد شخْرَمَة الوضع السياسي كان لابد من شخرمة الحالة المجتمعية ، وقد أكملت حكومة الانقلاب التي قادها عبد الناصر المهمة المنوطة بها ؛فبدأت بالمدرسة ، فتم إنتاج مسرحية مدرسة المشاغبين آواخر الستينات ؛التي كان لها دور عظيم في تحطيم الحالة المعرفية من خلال المدرسة في المجتمع العربي ، حيث أصبح المعلم والمعرفة مثار سخرية لم يسبق أن قدم مثله على مر عصور البشرية ، وظلت المسرحية تعرض لفترة طويلة ، وصارت الأجيال العربية تطبق ما رأته وسمعته في هذه المسرحية من تهوين للعلم وللعلماء .

ثم جاء دور تحطيم الأسرة وهذا ما حدث في عهد أنور السادات ، فنرصد ملاحظتين: الملاحظة الأولى مسرحية (العيال كبرت ) هذه المسرحية التي هشمت الصورة المثالية للأسرة وعلاقة الآباء مع الأبناء ،وفتحت العلاقات على حالة سوقية تنتج حالة مفتتة ، وترافق هذا العرض مع صدور قانون الأحوال الشخصية الجديد ؛ الذي سمي قانون جيهان ، نسبة إلى جيهان السادات ؛التي أشرفت على وضعه ، وكان لهذا القانون أثر سلبي على الأسرة المصرية ، حيث حول العلاقة بين الرجل والمرأة إلى حالة تبادل مصالح فقط ، وربما رصدت السينما المصرية بعض تجلَّيات هذا القانون في فيلم ( الشقة من حق الزوجة ).

ومنذ أن بدأ الربيع العربي بدأت محاولات الشَّخْرَمَة ، حيث لعب الإعلام دورا مهما في إقناع العوام أن الأمن أهم من الحرية ،وخلال فترة حكم الإخوان في مصر وبعد الانقلاب تمت شيطنة الإسلاميين؛ بوصفهم إرهابيين يريدون الكيد للأوطان وتدميرها ،على الرغم من أن هؤلاء الجنرالات العملاء كانوا السبب الأول في تخلف مجتمعاتنا منذ 60 سنة ، وليس بسر على الجميع الحملة الشعواء والغارة المِذْكار على الربيع العربي من الحكومات الملكية العربية والأنظمة الديكتاتورية ، فنلحظ حصارا على السوريين في داخل سوريا وخارجها ؛ كي تكون المعاناة عامة، ويصل صراخ المستغيثين إلى أقصى نقطة قَدَحَ فيها بشر حجر صوان ، حتى يبدأ الناس بالتشكيك في جدوى الثورة ، ومن ثم يتوبون عنها ، ويرجعوا ليضعوا أيديهم في الأغلال بإرادتهم .

لقد ظلت سياسة الشَّخْرَمَة تتمظهر بعدة أشكال ، وكان نتيجتها البَزْرَميط ،الذي عشناها منذ ستين سنة ؛فشلا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ، وعندما نهض الربيع العربي ، عاد كُهَّان الشَّخْرَمَة مرة أخرى بلبوس جديد ، وقد نجحت شخرمتهم جزئيا في مصر في إنتاج حالة البَزْرَميط من خلال انقلاب الجيش ، وعودته للسلطة ، فتمت حالة تعفين الوعي ،فصارت فيفي عبده أماً مثالية ، وقام جنرال مصري باختراع علاج للإيدز من الكباب المشوي . وغير ذلك من المضحكات التي ذكرها المتنبي في مصر .

إن الشَّخْرَمَة والبَزْرَميط ألفاظ مصرية اجترحتها الذهنية اللطيفة ،ذات الفكاهة ؛التي ليس لها مدى ، ولكن معناهما العميق إنتاج أمريكي، يهدف لإعادة السيطرة على المنطقة بطرق مختلفة ، بعد انتهاء حقبة الاستعمار المباشر القديم .

إذا : بدون مورابة وذهابا إلى الحقيقة المستكِّنة في روح النار أقول لك : اديني شويَّة شَخْرَمَة أدّيْك دنيا بَزْرَميط .