الأحد 2019/07/14

السوريون.. حين تضيق عليهم الأرض بما رحبت!

في أوائل العام 2011 تسمّر السوريون أمام شاشات الفضائيات، ليشاهدوا بكل درجات الاستغراب انتفاضة غير مسبوقة للتونسيين ضد "زين العابدين بن علي"، وبين التصديق والإنكار تسللت إلى مسامعهم عبارتان غريبتان عن جميع القواميس التي اعتادوها: "لقد هرمنا بانتظار هذه اللحظة التاريخية" و "بن علي هرب".

شاهد السوريون هذه المقاطع على شاشات الفضائيات وكأنهم يتابعون مشهداً هارباً من أفلام الخيال العلمي، فالمواطن العربي منذ نحو 60 سنة يهرم ثم يموت وهو ينتظر "لحظة تاريخية" لم تأت، والرئيس عادة لا يهرب، بل يجلس في قصره معززاً مكرماً والشعب هو من يهرب. وكمسبحة انفرط عقدها تكرّر المشهد في مصر ثم ليبيا فاليمن. أيقن السوريون أن "اللحظة التاريخية" مناسبة جداً لهدم أسوار عتيقة من الخوف والكبت.. أو هكذا ظنوا.

خرج الآلاف إلى الشوارع، ثم تحوّلوا إلى مئات آلاف، ثم ملايين.. الحلم البعيد بات أقرب من أي وقت مضى، وما هي إلا أيام أو أسابيع وتشهد سوريا هروب بشار أو تنازله أو الانقضاض عليه في إحدى قصوره... لم تكن هذه المشاهد بالنسبة للسوريين خيالاً أو حُلماً، فالمظاهرات تتفجر في كل مكان، في درعا الغاضبة، وفي الشرق السوري المظلوم، وفي حماة الجريحة، وفي حمص المحتقِنة، وحتى في الساحل والعاصمة اللتين طالما راهن الأسد عليهما. لا أزال أتذكر جيداً أن مراهنات السوريين في تلك الفترة كانت تدور حول المدة التي يصمد فيها الأسد، بعضهم جمح به الخيال بعيداً ليتحدث عن أسبوع أو شهر على أبعد تقدير، وآخرون حاولوا أن يكونوا منطقيين فقالوا: بل ستة أشهر، وثلة لا يستهان بها – معظمهم ممن شهدوا مجازر الثمانينات – توقعوا مساراً آخر مفاده: لن يرحل الأسد إلا بعد أن يجعل أنهار الدماء تجري في سوريا.

الأمر على أية حال أن الجميع تحدّثوا عن نظام ذي سجلّ أسود في ملف حقوق الإنسان، وموصوف في الغرب بالمارق، وعلى قائمة "محور الشر" الأمريكية، هذا بالإضافة إلى أن الجوّ العربي والدولي رسمياً وشعبياً مواتٍ للتخلص من نظام حول سوريا إلى مزرعة وجعل سكانها عبيداً فيها يعملون بقوت يومهم.

وما زاد الأمر تشجيعاً هو التصريحات العربية والدولية التي أشارت إلى "فقدان الأسد شرعيته"، وطالبته بالرحيل، واعتبرت مسألة سقوطه محسومة، حتى إن الرئيس الأمريكي آنذاك "باراك أوباما" قال: "أيام الأسد معدودة".

يزداد عدد الضحايا وتشتد وطأة القمع الأسدية مع كل تصريح عربي أو دولي ضد الأسد، لم يتغير شيء، ثم انتقل الأمر إلى قصف المدن بالصواريخ المحرمة والبراميل المتفجرة، ولم يتغير شيء، حتى إن بشار الأسد استخدم السلاح الكيماوي، وتجاوز "الخط الأحمر" الأمريكي، وكذلك لم يتغير شيء.

الواقع أن السوريين لم يكونوا على علم بأنهم لن يواجهوا بشار الأسد فقط، ولن يواجهوا حلفاءه الروس والإيرانيين فقط، لم يكونوا يعلمون أنهم سيواجهون النظام الدولي القائم بأكمله.

ليس المقام هنا بغاية سرد التاريخ، فالتفاصيل كثيرة سوداء، والمتورّطون كثيرون..، المهم هنا أن السوريين دفعوا الثمن باهظاً جراء الصمت الدولي عن جرائم نظام الأسد، وليت المسألة توقفت عند الصمت، فكثر من الدول التي صنفت نفسها على أنها "صديقة للشعب السوري"، دبّرت أمرها بليل، وعقدت النية على أن تجعل السوريين أمثولة للشعوب التي تفكر بالعبَث بالنظام الدولي القائم، والذي لم يدرك السوريون -إلا متأخرين- أن بشار الأسد يشكل فيه معادلة ما منعت سقوطه، وسمحت له بمتابعة حرب الإبادة على السوريين غير آبه بالقرارات الدولية والملاحقة القانونية.

في إطار النية السابقة عملت دول "الثورات المضادة" على تعقيد المشهد، واستخدمت ملف الدعم ورقة تتحكم فيها بمسار الثورة السورية، وباتت أجندة تلك الدول تحرك الأحداث وفق مخططات من يخرج عنها يغيب عن المشهد كلياً..هنا يدفع السوريون الثمن من جديد، حيث إن تلك القوى – التي بات بعضها معروفاً مشهوراً – عملت على إخراج القرار من يد السوريين، القرار السياسي، والقرار العسكري كذلك.

تطوّر هذا المشهد المعقّد ليغدو السوريون بعد التدخل الروسي المباشر في بلادهم عام 2015،  "قشة" تتلاعب بها صواريخ بوتين والأسد، ووعود المفاوضات والمؤتمرات، وتآمر القريب والبعيد، فلم يجدوا بداً من خيار اللجوء المرّ ، على الرغم من حلم "بن علي هرب" الذي راودهم لسنوات.

لم يقف الأمر عند هذا الحد، إذ إن المأساة لم تنتهِ بمجرد عبور السوري حدود بلاده نحو المجهول.. دفع السوريون الثمن مرة ثالثة في العديد من بلدان اللجوء، وباتت نكبته جزءاً من البرامج الانتخابية في الدول المضيفة، وورقة سياسية في المحافل الدولية، هذا عدا الحملات العنصرية غير المفهومة في بلدان اللجوء، التي صورت السوريين على أنهم شعب "هارب من الواجب"، يتسوّل المساعدات ويعيش على خيرات الشعوب المضيفة، ويتسبب وجوده بكافة الأزمات والمشاكل، وتحوّل الدور الأممي من الضغط باتجاه الحل في سوريا إلى دور إنساني مشوّه، لم يستطع فيه المجتمع الدولي إدارة لجوء السوريين بالشكل المطلوب، حتى اضطُر الآلاف منهم إلى العودة لبلاده على الرغم من المخاطر الحقيقية التي تحملها تلك العودة "غير الآمنة".

لماذا تحولت مطالب السوريين العادلة إلى حرب قتلت وشردت الملايين؟..وكيف نجحت ثورات لشعوب قبلهم وبعدهم فيما لا يزالون يعاقَبون على خروجهم ضد الأسد؟ ولماذا يدفعون الثمن حتى بعد تهجيرهم واقتلاعهم من أرضهم وبيوتهم وموارد رزقهم حتى تضيقَ عليهم الأرض بما رحبت ؟ كلها أسئلة تتكرر منذ سنوات دون إجابة شافية.