الجمعة 2016/10/14

الرواية القاتلة للإعلام السوري

تعيد التغطية الإعلامية للثورة السورية مناقشة دور الإعلام في تغيير اتجاهات الرأي العام، وسير العملية الإعلامية من الحكومة إلى الشعب، ومدى تأثير الرأي العام في صناعة المادة الإعلامية، والبحث في صدقية المواثيق الإعلامية المقررة.

هذه المناقشة لا تقتصر على وسائل إعلام النظام التي خرجت عن كل الأبجديات الإعلامية، بل وعلى وسائل الإعلام الغربية التي غالطت كثيرا في تناول الحدث السوري، ليس من الناحية الإخبارية فحسب، والتي تحتمل بعض الأخطاء نتيجة السرعة في نقل الخبر، بل تلك الأنواع الصحفية المنتجة بعد تخطيط وبإرادة حرة، مثل برنامج شاشة الرئيس الذي عرض في محطة "بي بي سي" وقدم دعاية لإعلام النظام ومخططات الأمن ولم يراع أبسط القواعد المهنية في تناوله للإعلاميين المختطفين في مدينة التل، وأظهرهم نجوما وضحايا الحقيقة، وبطريقة مبالغ فيها كسر فيها أي قواعد متعارف عليها في إنتاج البرامج الوثائقية.

وكذلك نجومية بشار الجعفري في محطة "سي أن أن" حتى بعد افتضاح كذبه في واقعة عبد القادر الصالح عندما اتهمه بأنه قال إنه يريد قتل الأقليات وأظهرت بعض القنوات التسجيل الحقيقي وهو يقول إنه يتمنى لو كان من الأقليات، ومع ذلك بقي الجعفري نجما في محطة "سي أن أن"، وخصصت له المساحات مع نجم المحطة أندرسون ليفتري على الشعب السوري ويحرض على قتله بمعزوفة الإرهاب التي تروق للغرب ويقدم دعاية للنظام أمام الرأي العام الغربي.

كما يشمل النقاش دور الإعلام في سفك الدم السوري وحجم المسؤولية التي تقع على وسائل الإعلام لعدم التزامها القوانين المحلية والدولية في التغطية الإعلامية، وتحديدا الإعلاميين المنخرطين بشكل مباشر في ترويج الجريمة والتهيئة لها في وسائل إعلام النظام وتنظيم الدولة الإسلامية، والمسؤولية الأخلاقية والجنائية لصناع هذا الإعلام والفاعلين والمنفذين له قياسا مع تجارب سابقة لصحفيين جرت محاكمتهم لدورهم في التحريض على القتل، فقد حوكم غوبلز وزير دعاية هتلر عام 1947 في محكمة دولية، وحوكم الصحفيون الذي قاموا بالتحريض على القتل في رواندا عام 1994 لدورهم ومشاركتهم في مقتل مئات القتلى، وتحديدا العاملين في إذاعة التلال السبع.

المتابع لتغطية إعلام نظام الأسد للأحداث في سوريا منذ اليوم الأول حتى اللحظة الراهنة يسجل بطريقة ممنهجة مدى انحراف هذا الإعلام عن طبيعة ودور وسائل الإعلام واستخدامه جميع أنواع التضليل المكشوف.

ويحتاج تحليل مضامين المواد الإعلامية التي بثتها وسائل الإعلام السورية إلى كتب لرصدها، ولا يحتاج إلى خبراء في القانون لقياس الدور التحريضي والتضليلي وصناعة المجرمين الذي ارتكبوا الجرائم الفظيعة.

بين ظهور أنور الدش المعتوه بداية الثورة في وسائل الإعلام وبث شريط صحفي ألماني وهو يجري مقابلة مع زعيم جبهة النصرة المفترض عرضت آلاف من الأفلام والمقالات والأخبار والمسلسلات الدرامية التي تعتمد الكذب الفاضح لتشكل الصورة القبيحة للإعلام ودوره في المجتمع.

وفق التقييم النقدي والمعايير الإعلامية والتشريعات الصحفية كيف يمكن الحكم على الصحفيين الذين ينفذون برامج وخطط دولة ومؤسسة؟ كما يقول بعض الحقوقيين الغربيين وأصحاب نظرية الطريق الثالث إنه لا بد من التدليل على أن الإعلام ساهم بالقتل بطرق مختلفة وأسباب متنوعة الأهداف والأغراض، ولا بد من التمييز بين أنواع الصحفيين ومدى مساهمتهم في هذه العملية التي أدت إلى القتل وارتكاب الجرم القانوني وانتهاك جرائم النشر بشكل صريح بعد أن بدأت الدماء تملأ الشاشات.

فقد كان النظام يرتكب الجريمة ويتاجر بها إعلاميا ويتهم المعارضة بها، وفريق من الإعلاميين ينفذون هذه المهمة فضلا عن إعلاميين شاركوا في ضرب المتظاهرين وإعلاميين اشتغلوا جواسيس للمخابرات، وأشهد على تشكيل فريق من الإعلاميين سلموا كاميرات حديثة لمرافقة المراقبين العرب وتصويرهم على مدار الساعة وإعلاميين كانوا يدلون الأمن على الناشطين.

وهذه أنواع ومستويات مشاركة الإعلاميين في صنع المادة الإعلامية:

1- الإعلاميون الذين يدعون الحياد وهم يروجون الشعاراتالوطنية الزائفة والإنسانية الكاذبة ويجدون المبررات والحجج الواهية ويستخدمون مصطلحات "الأطراف المتقاتلة" و"محاربة الإرهاب"، ولا يجدون في سلوك النظام أي انتهاك لحقوق الإنسان، وهم في القانون مشاركون في الجريمة.

2- الصحفيون الذين يودون ترك النظام ولم يجدوا فرصة عمل في مؤسسات المعارضة أو لم يتمكنوا من إخراج أهليهم وذويهم ومحكومون بالخوف من انتقام النظام الذي يطلب منهم المشاركة في عملية حرف الحقيقة ضمن منظومة التحريف التي يتبعها، وتاليا مشاركتهم بجرائم نشر تبقى في إطار الإجبار والخوف والسلبية، وهؤلاء يتحملون المسؤولية الأخلاقية، وقد عشت تلك المرحلة لمدة عام كامل ووجدت نفسي أشارك في جرائم النشر، وقد غادرت بعد أن أصبح العمل الصحفي جريمة منظمة.

3- الإعلاميون المشاركون والمنخرطون في المطبخ الأمني للمواد القاتلة، وهؤلاء ينطبق عليهم التوصيف أنهم يساهمون في القتل ويمكن الدخول في الدلائل التي تثبت صحة هذا التوصيف، فمنذ العام 2011 مع انطلاق الثورة السورية كانت أجهزة الأمن السوري تعد وبالتعاون مع الخبراء الإيرانيين واللبنانيين وشركات غربية خططها لمواجهة الشعب السوري بمستويات متعددة من دراسة ظهور الرئيس إلى مسلسل تشويه الثورة السورية، وسنحصر هنا الحديث المقتضب حول مسلسل تشويه الثورة والشعب ضمن موضوع المقال.

خلايا إعلامية

بدأ الإعلاميون المشاركون في تشويه الحدث بتشكيل خلايا عمل خارج سلطة الإدارة الإعلامية لدرجة جعلت المدير العام للهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون المهندس معن حيدر يحتج للوزير بأنه لا يعلم مضمون الشرائط والفيديوهات التي تبث ضمن نشرات الأخبار، وقد جاء رد الوزير عدنان محمود: شاهدها في الشاشة، مثلي مثلك..! فما هي تلك الأفلام التي كانت تبث في نشرات الأخبار ولا يشاهدها الوزير ولا المديرون؟ وأين كانت تصنع؟

يمكن إيراد عينات قليلة لأنها تعد بالمئات بل الآلاف، ومنها:

-فيلم "المسلحون في درعا" الذي كان باكورة الأفلام المصنعة، وقد أنتج في غرف المخابرات لتمرير رواية النظام بأن من يقتل الشعب والأمن هم المسلحون، وعلى الرغم من الأخطاء الفنية التي تفضح صناعة المقطع إلا أنه مرر إلى وسائل الإعلام وبات شاهدا يتداوله الناس.

-فيلم "القناص الشبح" الذي تم تصويره في لبنان وعرض على أنه حدث في دوما لتأكيد الرواية ذاتها أن المسلحين يملكون قناصة ويقتلون الشعب والأمن، وأن الفيلم صور بالصدفة من جوال أحد المواطنين وأيضا كانت الأخطاء كبيرة، لكنه مرر إلى الشاشات ووسائل الإعلام.

- تغطية مجزرة جسر الشغور التي حدثت في الشهر السابع من العام 2011 وتم تصنيع عدة أفلام ولقاءات وتقارير بشأنها، وكان المشاركون فيها مع الأسف الشديد ليسوا الصحفيين المرتبطين بالغرف الأمنية أمثال حسين مرتضى مراسل قناة العالم وصحفيي التلفزيون السوري وقناة الدنيا وإنما مراسلو المحطات الخارجية.

وكانت التغطية عبارة عن مؤتمر صحفي حضر له الأمن السوري بالاشتراك مع المراسلين في الإعلام الخارجي والصحفيين المشاركين في المطبخ الأمني، وقد ظهر بطل مجزرة جسر الشغور أنور الدش ليؤكد أنه من اغتصب النساء الحلبيات، وأنهم قتلوا عناصر المفرزة الأمنية، وأن المال والسلاح يأتيان من تركيا ولبنان عبر شخص اسمه زعتر.

وبعيدا عن مناقشة المضمون السياسي فإن الحالة الإعلامية كانت تدلل على دور الإعلام في سفك الدم السوري، فقد التف حول الرجل المعتوه أنور الدش -حسب تقارير طبية تؤكد أنه معتوه- مراسل قناة العالم حسين مرتضى، ومراسل المنار أنس أزرق، ومراسل تلفزيون الجديد نضال حميدي، ومندوب التلفزيون السوري أحمد حليمة يعطونه مفاتيح أجوبته لأنه مريض عقليا لا يعرف ما يقول.

بعدها ينبري المحللون والإعلاميون يسجعون في توصيف المسلحين وقتل الأمن والشعب، وأوكلت المهمة لعمران الزعبي الذي أصبح وزيرا للإعلام بعدها ليجعل مما قاله أنور الدش برهانا ودليلا لا يقبل الدحض.

والحادثة الثانية التي ترتبط بتلك التغطية هي تصوير فيلم عن مسلحين يعتدون على فريق صحفي للدلالة على وجود مسلحين يعتدون على الحقيقة، والحقيقة كانت أن الحادثة تدبير أمني مدروس.

وقد بدأت هذه السياسة منذ اليوم الأول للثورة عندما اتهمت الإخبارية السورية منظمة فتح الإسلام في أحداث درعا، وتراجع صناع التلفيق بعد نفي أنور رجا أي علاقة للفلسطينيين بما حدث فبقيت الرواية السورية متجهة نحو المسلحين فقط تنتظر مرحلة الإرهاب الموعودة.

وجاءت المنازلة الأولى أثناء التفجير الذي حدث في فرع فلسطين خلف الجمارك في الـ12 من نوفمبر/تشرين الثاني 2011 وسارعت القوى الأمنية عبر الإعلام لاتهام الإخوان المسلمين بهذا العمل الإرهابي، وأنشأ مسؤول الجيش الإلكتروني عمار إسماعيل موقعا باسم الجماعة أعلن من خلاله المسؤولية عن التفجير فتصدى له الإخوان ونفوا أي علاقة لهم به وكشفوا عبر الدومين أن هذا الموقع قد تأسس حديثا ومصدره دمشق والجيش الإلكتروني التابع للأسد، بعدها كرس النظام رواية الإرهاب عبر سلسلة من التفجيرات في دمشق وحلب.

وبين "الإيميل" المسرب من "إيميلات" الرئيس دور حسين مرتضى في تمرير رواية الإرهاب، حيث يقول للرئيس: لقد تسرعتم في اتهام القاعدة بتفجير الميدان، كان يجب الانتظار لساعات فقط. وبعدها استمرت رواية الإرهاب القاتلة حتى وصلت إلى داعش (تنظيم الدولة) وقائد جبهة النصرة المفترض أبو العز شبيه بطل مجزرة جسر الشغور.

الرواية القاتلة للنظام مررت الطائفية أيضا، وقامت بتوزيع المنشورات وتسللت عبر المظاهرات بحيث دس الأمن بين المتظاهرين من يرفع شعارات الطائفية، وكان الملفت اشتراك رأس النظام بشار الأسد في خطابه الأول في 30 مارس/آذار 2011 ليتحدث عن الطائفيين وكالعادة يسارع الإعلاميون الفاعلون لتكريسها.

وأيضا ظهرت خطورة الصحفي المشارك في الترويج لمخططات النظام لتشويه حركة الشعب ليصور ما تنفذه فرق التخريب ويكتب العناوين العريضة بشأن المظاهرات والتخريب.

مفردات مخطط النظام لتشويه الثورة وتكريس روايته القاتلة كثيرة، لكن المهم هنا هم أولئك الصحفيون الذي اشتركوا بشكل مباشر في تمريرها وصناعتها وتكريسها عند الرأي العام الداخلي والخارجي، ومع الأسف إلى اليوم هناك من يعتبر المعادلة القائمة ضمن حرية الرأي، فأي حرية للرأي والتعبير عندما تكون الموازنة بين مجرم وقاتل وضحية.

لعل ضعف إعلام الثورة مكن هذه الرواية من النجاح في التضليل والترويج للإجرام، والمؤسف أن يشترك الإعلام الدولي في هذه الجريمة ويزيد في الترويج لمجرم وقاتل، وهنا يبرز السؤال بشأن المعايير الإعلامية الدولية المقررة في الأمم المتحدة والشرائع الغربية، وأخلاقيات المهنة، والتشريعات والقوانين الناظمة للعملية الإعلامية، وبعد وقبل كل شيء الضمير الصحفي، ولولا بعض المحطات العربية -وأخرى غربية- لضاعت الحقيقة.