السبت 2017/06/24

الجزيرة ..التغطية مستمرة

من حقهم في الواقع أن يستهدفوها وأن يطالبوا بإغلاقها بعد أن وضعوها على قائمة "الحرام الممنوع" لدى شعوبهم، وهل يمكن  للسارق أو القاتل أو أيِّ مجرم أن يرغب بوجود عدسة تراقب وتسجّل ما يفعل؟

لم تكن الجزيرة تدري حين ولدت عام 1996 أنها ستكون إلى هذا الحد مزعجة، ولم يتخيل من أنشأها أن وجودها في هذا الفضاء الرحب سيجعل صدوراً تتميز غيظاً وحقداً وألماً، لم تكن تدرك أن دولاً "بعضها توصَف بالكبرى" تملك مئات القنوات والصحف والإذاعات، تضيق ذرعاً من قناة واحدة ليس لها حيز على الأرض إلا في مساحة 2كيلو متر بنيت عليها !

شاء الحاسدون أو أبوا، لا يمكن لتاريخ المنطقة إلا أن يسجّل أنَّ قناة تسمى الجزيرة استطاعت أن تعيد تشكيل مفهوم الانقلابات التقليدية، فنفّذت "انقلاباً ناجحاً" على ما "وجدنا عليه آباءنا"، فكل ما اعتاد عليه الناس في الرقعة الممتدة بين المحيط والخليج كان محصوراً فيما يراه "القائد الأوحد"، وكل ما يرونه على الشاشة يتعلق بنظرة "سيادته وجلالته" إلى الحياة، وتتصدر صوره عناوين النشرات وافتتاحيات الجرائد وهو "يودّع ويستقبل" ويتكلم "باسم الشعب"، جاءت الجزيرة فإذا بالعرب يشاهدون فيها رؤساءهم وملوكهم بشراً "يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق"، يهرَمون كشعوبهم ويموتون كضحاياهم، وتُنطق أسماؤهم على ألسنة المذيعين خاليةً من عبارات التمجيد والتأليه.

ظهرت الجزيرة أمام الشعوب العربية المسحوقة وحكامها الفراعنة مثلما ظهرت ساعة هارون الرشيد أمام شارلمان فقال الأخير قيِّدوها وأخرجوها إن فيها جناً، اكتشف الملايين أن من كانوا يعبدونه من دون الله يوجد من يعارضُه، نعم، ربما كانت المرة الأولى التي يسمع فيها عوامُّ الناس كلمة "معارضة" التي بدت أشبه بأحفورة عجيبة من زمن الديناصورات، أو كأنها تعويذة قذفتها الكائنات الفضائية في روعهم، ثم توالت "التعويذات" التي بات الشعب العربي يسمعها ويتلفّت حوله خائفاً متوجِّساً ..حقوق الإنسان ..القانون الدولي ..مظاهرات شعبية ..انتخابات نزيهة.. عدالة اجتماعية ..إلى آخر هذه القائمة التي لم يكن يعرفها من العرب إلا من غادر حظيرة الوطن.

على شاشة الجزيرة في "شاهد على العصر" لم تظهر "حرب تشرين" كما قرأها السوريون والمصريون في كتب المناهج، ولم تبدُ حياة حافظ الأسد وأنور السادات ومعمر القذافي وإنجازاتهم كما عرفها الناس في كتاب "القومية"، وعلى شاشة الجزيرة عرف العرب للمرة الأولى أن في الحياة اتجاهاً واتجاهاً معاكساً، وليس اتجاهاً واحداً لا يسمح بوجود ندٍّ أو منتقد، ولا ننسَ كذلك أن المواطن العربي الذي لم يكن يفتح فمه إلا عند طبيب الأسنان، و لم يكن يُظهر رأيه إلا وهو يقول "نعم" في الاستفتاء على "تجديد البيعة" للقائد، بات له على الجزيرة "منبر" يقول فيه ما يشاء دون أن يغلق أحد الخط بوجهه.

عبر الجزيرة عام 2000 شاهد الملايين جنازة حافظ الأسد، دون أن يكونوا مجبَرين على سماع نحيب مروان شيخو والبوطي، عرف السوريون وقتها للمرة الأولى أن في الكرة الأرضية بشراً مثلهم يستطيعون أن يسردوا جرائم حافظ بحق السوريين، عبر الجزيرة عرفوا أن ما فعله آنذاك بشار الأسد وحرس أبيه القديم ليس "انتقالاً سلساً للسلطة"، عرفوا أنهم لا يعيشون في دولة يحكمها الملك الجبري الموروث، وعرفوا كذلك معنى "الانقلاب على الدستور"، وعبر أخبار الجزيرة تابع العرب "بلسان عربي" كل تفاصيل الحرب على أفغانستان 2001 ، وغزو العراق 2003.

إلى هذا الحد نستطيع أن نقول إن الجزيرة أزعجت مشاعر "الفراعين العرب" لكن ليس إلى حدٍّ كبير، لكن لحظة الحقيقة حانت نهاية عام 2010، وبداية 2011، ذلك التاريخ الذي دقَّت فيه ساعة الجزيرة مجدداً أمام "شارلمان".. نقَلت وقائع هروب بن علي، وتنحّي مبارك، ومقتل القذافي، وبات العالم يشاهد العرب للمرة الأولى يهتفون "الشعب يريد إسقاط النظام" بدلاً من "بالروح بالدم نفديك".

وبدأت وتيرة الحقد على الجزيرة ترتفع حين بدأت ترصد موجات "الثورات المضادة" التي لم يكن قد ظهر للرأي العام من يموِّلها ومن يقف خلفها، فضحت الجزيرة انقلاب السيسي، ورصدت انتهاكات قوات حفتر في ليبيا، وبدأ من يقف وراء "الثورات المضادة" يتحسَّس رأسه، فكان لا بد من إعلان الحرب على الجزيرة بشكل علني، بعد أن كانت العداوة مقتصرة على "بلطجات" كاعتقال موظفين في الجزيرة بتهمة الإرهاب، أو كقيام وزير خارجية السيسي أكثر من مرة بإزالة مكرفون الجزيرة من أمامه في حركة تعبر عن مدى الاهتزاز والرُّهاب من الحقيقة.

إن اللحظة التي قرر فيها "محور مقاطعة قطر" أن يتهم الجزيرة بدعم "الإرهاب" ويضع إغلاقها على رأس مطالبه ليست اعتباطية، بل هي اللحظة التي كشَّر فيها أعداء "الربيع العربي" عن أنيابهم، واتخذ مَن نجا مِن موجة التغيير منهم قراراً بسحق هذا الربيع إلى غير رجعة، بعد أن ساهم أركان هذا المحور في إيقاف مدِّ الثورات الشعبية أو عرقلتها أو شيطنتها، هي اللحظة التي بات فيها "محور الثورات المضادة" يسعى إلى إقناع الشعوب بالعودة إلى حظيرة السمع والطاعة،  لحظة المطالبة بإغلاق الجزيرة هي اللحظة التي بدأ المصريون فيها يكتشفون أن من وعدهم بأن مصر "هتبقى قد الدنيا" يسير بهم إلى الوراء، ويبيع بلادهم في مزاد مفتوح لمن يدفع أكثر، هي اللحظة التي بدأ فيها السوريون يواجهون حقيقة ما حيك لهم من دول لبست جلباب الناصر والصديق وعبثت بثورتهم وبدماء مليون قتيل، وفي الوقت الذي عرف فيه اليمنيون كذلك من حوَّل نجاح ثورتهم إلى حرب طاحنة تأكل الأخضر واليابس مع خوف دائم من انفصال بين الشطرين الشمالي والجنوبي.. نعم ..بدأت الصورة تتوضح أكثر، فكان لا بد من إيقاف الصوت وتشويش الصورة.

رغم الضغوط ورغم سخونة المواقف وزيادة الاستقطاب، ربما لا يزال لدى من يطالبون بإغلاق الجزيرة متَّسَع من الوقت ليدركوا أن الحقيقة كلما حوربت أكثر، زادت بريقاً وتوهجاً في قلوب عشاقها، وأن الصورة كلما زاد التشويش عليها قويت الرغبة وجمَحت نحو الحصول على نسخة جليّة منها..ربما نسي هؤلاء أن الزمن دار دورته ، وأن هذه الدورة كان ثمنها باهظاً دفعته شعوب المنطقة دماء وأشلاء ومدناً مدمَّرة وجيلاً ضائعاً وأمّة مشرّدة، وحين يدور الزمن دورةً بذاك الثمن المرعب فلن يكون القيدُ هذه المرةَ ليّناً في يد السجان، ولن تكون يد السجين ممدودة كعادتها لتقبل بالأمر الواقع..

أما آن لهم أن يعلموا أن الجزيرة تختصر حكايات شعب حلم بالجنة ولا يزال يحلم ويحلم..آن لأحد ما أن يقول لهم إن الجزيرة صوت يأتي عبر آلة الزمن ليُفهمنا أن الإنسان لا يحيا بالخبز وحده؟ هيومن رايتس ووتش اختصرت لهم القضية وقالت إن المطالب بإغلاق الجزيرة عقاب للملايين.. الجزيرة فكرة ، والفكرة لا تموت، ولدى الشعوب العربية يقين ثابت أن الصوت الذي اعتادوا على سماعه منذ واحد وعشرين عاماً سيظل يصرخ في وجه خفافيش الظلام وأعداء الحقيقة : الجزيرة ..التغطية مستمرة.