الخميس 2018/01/18

التجنيد الإجباري .. “مقصلة الأسد الناعمة”

"لماذا أدافع عن نظام يقتل أهلي، ولأيِّ ثمنٍ أقتُل أو أُقتَل" ..جملتان لا بد أن معظم الشباب السوري ردَّدها منذ أن أعلن بشار الأسد حربه على الثورة الشعبية في البلاد.

أمام موجات الانشقاق والفِرار في المراحل الأولى من الثورة السورية حاول نظام الأسد تدارُك النقص في قواته عبرَ الاحتفاظ وإلغاء التسريح من الخدمة العسكرية، ثم لم يلبثْ أن أطلق حملات الاحتياط والتجنيد الإجباري في كافة المحافظات عقب الانهيارات المتتالية التي أصابت قواته.

حملات لم تستثنِ طلاب الجامعات أو الموظّفين أو المُعيلين، فالجميع معرَّض للاعتقال ثم إلى الزجّ على الجبهات الساخنة، وقوائم التجنيد في سوريا "باتت كابوساً يلاحق الذكور وينغّص حياتهم"، ما أدى إلى موجات نزوح ولجوء قلّما يُسلط عليها الضوء.

تسعى هذه المقالة إلى إثبات أن "التجنيد الإجباري" لدى نظام الأسد ليس إلا جريمة أخرى من جرائمه الكثيرة، والغريب أن المنظماتِ المَعنية بحقوق الإنسان والانتهاكات لم تركّز على أبعاد تلك الجريمة في المجتمع السوري، وهي لا تقِلُّ خطورةً عن جرائم القتل والاعتقال والتعذيب والتهجير، والمفارقة أنها تحوي كل هذه الأنواع من الانتهاكات. والأشدّ غرابة كذلك أن شهوداً عِياناً أفادوا أن قوانين الهجرة واللجوء الأوربية لا تعُد الهروب من الخدمة الإلزامية سبباً مقنِعاً لقبول الطلب ومنح اللجوء، بل إن بعض المحقّقين هناك قد يلوم الشابَّ إلى درجة التعنيف في حال أقرّ الشاب بأنه هارب من الخدمة الإلزامية!.

آثار سياسة "التجنيد الإجباري" في سوريا:

1) القتل بطريقة "قانونية":

معروف لدى السوريين أن المنتسِب للجندية يمضي فيها سنوات من عمره يُفترض أن يُحصِّلَ فيها قدراً جيداً من طرق التعامل مع الأسلحة ومعرفة تكتيكات القتال البعيد والقريب؛ لكن هذا هو "المفترَض"، فالجندي عادة يُمضي نحو ثلاثة أعوام في الخدمة العسكرية فقط لإسقاط هذا الفرض من حياته، وبنسبة تفوق 80% يُنهي المجنَّدون خدمتهم دون أن يتعلّموا العناوين الرئيسية في علوم العسكرية، فهم مُجبرون على إنفاق وقتهم في الركض مسافات طويلة، والتدرُّب على تقديم العروض العسكرية، أو في خدمة الضباط.

جميعنا يعرف هذه القصص قبل اندلاع الثورة السورية، وقد زاد الأمر عشوائية وسوءاً مع اشتعال جبهات البلاد، كل ما في الأمر أن تعتقل قوات الأسد شباباً من الحواجز أو عن طريق عمليات الدهم، ثم تزجُّهم في الجبهات المشتعلة دون تدريب أو تأهيل، فهي بالتالي تقتلهم بطريقة غير مباشِرة، تحت غطاء "قانون التجنيد".

وقد حصل ذلك كثيراً في المعارك مع تنظيم الدولة بأرياف الرقة ودير الزور وحمص التي جند فيها النظام الآلاف وأرسلهم إلى مصارعهم. وفي مناطق سيطرتها بمدينة دير الزور حرص ضباط الأسد هناك على تجنيد كل من يستطيع حمل السلاح، ثم أرسلوهم إلى محاور ساخنة آنذاك في منطقة البانوراما وجبال ثردة والمطار العسكري، وكانت النتيجة عشرات القتلى ومئات المصابين من أبناء دير الزور الذين أُرسلوا إلى الموت بطريقة ظاهرها تجنيد إجباري وباطنها قتل ممنهَج.

هذه الطريقة الممنهَجة في القتل طبّقها النظام كذلك في معظم المناطق التي عقد فيها ما يسمى "بالهدن والمصالحات"، وتعرّض الشباب في محافظات حمص وريف دمشق ودرعا لخديعة كبرى عنوانها "تسوية الأوضاع"، ثم لم يلبث النظام أن ساقهم إلى الجبهات المشتعلة ليلقيَهم على خطوط الاشتباك الأولى، ويتخلّص منهم "بطريقة نظيفة".

2) سلب الأموال:

اتخذ نظام الأسد من مجال التجنيد ميداناً خِصباً لجني الأموال الطائلة، ولا سيّما مع وجود فئات كثيرة في المجتمع السوري مستعدة لدفع أموال طائلة في سبيل عدم زج أبنائها بساحات القتال. وتتنوع طرق سلب الأموال من الشعب لدى النظام وضبّاطه.

أما النظام فإنه يحصل على أموال طائلة جراء المبالغ التي يدفعها المقيمون أو المغتربون للإعفاء من التجنيد، وقد وصل "البدل النقدي" للإعفاء إلى مبلغ 8000 دولار أميركي ( ما يعادل 3.680.000  ل .س في تاريخ إعداد البحث).

أما ضباط النظام وموظفو دوائره التجنيدية، فإنه باتوا يحلمون ألا تنتهي الحرب في سوريا، إذ فتح عليهم التجنيد باب انتفاع عريضاً، جراء الرشاوى الطائلة التي يتقاضونها مقابل تأجيل المكلف أو التغاضي عن إصدار "نشرة شرطية" باسمه، أو مقابل إمضاء خدمته خارج قطعته العسكرية.

التجنيد يثبت أن هذا النظام مجرد عصابات مالية منظّمة، يتفق فيها الضابط الكبير مع موظّفيه لتقسيم "غنائمهم".

3) عسكرة المجتمع المدني:

عن طريق الترغيب والترهيب حرص نظام الأسد بشكل ممنهج على عسكرة المجتمع السوري في المناطق التي يسيطر عليها، وكأن لسان حال النظام يقول للسوريين: "احملوا السلاح للدفاع عني أو لا يحق لكم العيش في أرضي". هذا هو الواقع في مناطق سيطرة الأسد، التي تختفي فيها مظاهر الحياة المدنية بشكل واضح وتدريجي.

الذكور المشمولون بالفئة العمرية للتجنيد لا يمكن أن يمارسوا حياتهم بشكل اعتيادي، فالأسد وضع لهم ثلاثة طرق لا بد من سلوك أحدها:

الأول هو الانخراط في الخدمة الإلزامية سواء للمرة الأولى أو من باب "خدمة الاحتياط"، والثاني يتمثل في الانتساب والتطوع لدى إحدى المليشيات المسلحة عن طريق "العقود السنوية"، التي باتت توفّر وارداً شهرياً مُغرياً بالإضافة إلى أنها تخلّصه من مساءلة "التخلف والفرار من الخدمة"، والطريق الثالث يعطي حلاً لمن لا يرغب بالخيارين الأولين: هو الهروب إلى المناطق الخارجة عن سيطرة النظام أو اللجوء إلى الدول المجاورة.

وفقاً لذلك يندر أن تجد في مناطق سيطرة الأسد بيتاً إلا ويحوي شخصاً أو شخصين أو أكثر تابعين لقوات النظام أو لمليشياته الكثيرة، السلاح في كل بيت، والمظاهر المسلحة لا تقتصر على الحواجز أو النقاط العسكرية، بل بات مشهد "الزي العسكري والسلاح" معتاداً في أحياء دمشق واللاذقية وطرطوس، ويطول موضوع مناقشة السلبية لهذا الأمر، ويحتاج إلى بحث مستقل.

4) إفراغ المناطق من فئة الشباب:

أدّت حملات التجنيد الإجباري إلى إفراغ مناطق سيطرة النظام من الشباب، من الفئات العمرية بين 19 و42 عاماً، وهجرتهم إلى مناطق لا يسطو عليها النظام في سوريا أو إلى خارج البلاد، لتصبح الأكثرية فيها من النساء والأطفال وكبار السن. وفي هذه الحالة يتخلّص النظام بشكل فعلي من فئة الشباب الذين يمكن أن يسبّبوا له قلقاً يوماً ما، واضعاً في حسبانه أن المظاهرات الشعبية أوائل الثورة قادتها فئة الشباب. ما يجعل عناصر النظام يحكمون "مجتمعاً هادئاً" بالنسبة لهم، فالغالبية العظمى فيه نساء وأطفال وعجائز.

5) ترسيخ الانقسام في المجتمع:

لنظام الأسد تاريخ عريض في ترسيخ الانقسام بالمجتمع السوري، وهو من أمكر الذين طبقوا مقولة "فرق تسُد" على السوريين منذ عشرات السنين.

عناوين الطائفية والعرقية والوطنية استخدمها نظام الأسد منذ نشوئه لتحقيق سيطرته على المجتمع عبر تفكيكه وخلق الانقسامات، وإذا كان قد فشل سابقاً في جعل المجتمع السوري منقسماً ومفكَّكاً، فمما لا شك فيه أنه نجح في العزف على هذا الوتر بعد الثورة.

التجنيد الإجباري شكَّل مظهراً من مظاهر ترسيخ الانقسام في المجتمع السوري بعد الثورة، ومن مظاهر ذلك أن العائلة مثلاً قد تكون كلها معارضة، فيُقبض على أحد أبنائها ويُسحب إلى التجنيد، وأمام عجزه عن تأمين انشقاق آمن فإنه سيصبح مُوالياً للنظام رغماً عنه، وهذا ما سيجعله غيرَ مُرحّب به عند بقية العائلة، وسيوجد كذلك من يدافع عنه ويقول إنه "مُجبر ولا شيء بيده". حينها سيحصل الانقسام داخل العائلة الواحدة والأقارب بين مهاجِم لهذا المُجنَّد "الذي رضي أن يكون في صفوف المجرمين"، وبين مُدافع يجد له عذراً.

قد يبدو هذا المثال مبسّطاً لكنه ينطبق على عشرات آلاف الحالات التي وقعت في المجتمع السوري، الذي انقسم أصلاً إلى "مؤيد ومعارض"، ثم يأتي التجنيد ليعمّق الخلاف والانقسام داخل الطبقة المعاِرضة نفسها.

6) طريقة أخرى للترهيب:

يضاف التجنيد الإجباري إلى قائمة جرائم طويلة ارتكبها نظام بشار الأسد ضد السوريين، تشمل عمليات الاعتقال والقتل والتعذيب والتدمير والتهجير الممنهج.

الشاب الذي يرفض الالتحاق بالتجنيد، يصبح مجرماً ملاحَقاً بنظر النظام والقوانين التي وضعها لتخدم بقاءه بأي ثمن. فبعد انتهاء المهلة المحددة التي يقدم فيها الشاب مسوِّغاً للتأجيل عن الالتحاق بالخدمة، ترفع شعبته التجنيدية اسمه، وتصدر ضده ما يعرف بـ "النشرة الشُّرطية" التي يصبح بموجبها مطلوباً للقبض عليه.

كان ما يُسمى "الشرطة العسكرية" قبل الثورة مظهراً من مظاهر ترهيب الشباب السوري، لأنها هي المسؤولة عن اعتقال "المتخلّفين عن الخدمة"، وعند الوقوع بيد عناصر هذا الفرع يذوق المقبوض عليه شتّى أنواع التعذيب والتنكيل والإهانة، قبل سَوقه إلى قطعته العسكرية.

بعد الثورة لم يعد الأمر مقتصراً على "فرع الشرطة العسكرية"، بل أصبحت جميع الفروع الأمنية والعسكرية تشارك في البحث عن طرائدها في الشوارع والجامعات والمقاهي والبيوت أيضاً، وهذا ما يجعل الشباب في مناطق سيطرة النظام في ذعر لا ينتهي، وكوابيس لا تنقطع.

7)الحصول على "شرعية مفقودة" :

نستطيع أن نقول إن معظم الدوائر والمؤسسات التابعة لنظام الأسد أصابها العطب، ولا سيما في الفترة الممتدة بين 2012 و 2016، ولم يعد تطبيق القوانين أو التعليمات ذا قيمة أمام تفكُّك عُرا النظام، وفقدان السيطرة على معظم البلاد.

نستطيع أن نقول إن حملات التجنيد الإجباري شكّلت مظهراً من مظاهر إثبات السطوة والسيطرة، فعن طريق إعداد  قوائم المطلوبين وتنفيذ عمليات الدهم والاعتقال، وسعي المدنيين إلى تأجيل أبنائهم بالطرق القانونية أو الملتوية، حاول النظام أن يُعيد لنفسه هيبته السالفة.

يستطيع المدقّق في الوضع السوري أن يلاحظ عدم اهتمام الناس في مناطق النظام بشتى التعليمات والقوانين، باستثناء ما يتعلق منها بالتجنيد الإجباري الذي يمس حياة أبنائهم بشكل مباشر.

8) التجنيد ..أحد مظاهر الانتقام :

اليوم بعد أن سيطر الأسد بمساندة روسيا وإيران والمجتمع الدولي على مناطق لم يكن يحلم بالوصول إلى حدودها الإدارية، سيحاول النظام كذلك أن يفرض "شرعيته المفقودة" وأن يقنع الناس بسطوته عن طريق التجنيد الإجباري.

الشباب في مناطق من الرقة ودير الزور والبادية وريف دمشق  معرّضون الآن وأكثر من أي وقت مضى للاعتقال على الحواجز المنتشرة، وسيكونون كذلك حطباً في نيران الحرب التي فرضها بشار الأسد على السوريين لأنهم طالبوه بالرحيل، سيكون التجنيد الإجباري مظهراً جلياً من مظاهر الانتقام التي سيمارسها النظام في المناطق التي ثارت عليه وأصبحت تحت سطوته.

الخاتمة:

في هذا البحث المختصر يظهر جلياً أن سياسة "التجنيد الإجباري"  التي اتبعها نظام الأسد لا تقل خطورة عن جميع الجرائم التي مارسها على السوريين، والخطورة في الأمر أنها جريمة لم تجد مساحة كافية أو اهتماماً من قبل المؤسسات القانونية الدولية، بل إن أحداً لم يقم بإدانة "التجنيد الإجباري" واعتباره جزءاً من المحرقة الأسدية، على الرغم من أنه يختصر كما أسلفنا معظم جرائم الحرب المتّبعة، فالتجنيد الإجباري ببساطة هو قمع وتعذيب وقتل وإخفاء قسري وتهجير.