الجمعة 2018/10/19

ارتدادات قضية خاشقجي على بلدان الربيع العربي

من السابق لأوانه وضع توقعات لتبعات قتل خاشقجي على بلدان الربيع العربي قابلة للثبات، ولكن الهزة السياسية التي يعيشها النظام السعودي نتيجة عملية الإخفاء (وأقول الإخفاء حتى يصدر ما يفيد الاغتيال) لن تكون بلا نتائج على المنطقة، وخاصة على البلدان التي اعتبرها النظام السعودي معادية له أو مثيرة للقلاقل، والتي لا يريد أن يعترف بأنها عاشت ربيع تأسيس الديمقراطية التي لا تسمع بنشر الناس بمناشير.

منذ شتاء 2011، حين كانت الثورة التونسية تقدح نارها في هشيم الأنظمة العربية فتشتعل مصر واليمن، وتقوم مظاهرات لأول مرة في بلد آل سعود، انحاز النظام السعودي إلى الجبهة المعادية للثورة العربية وأعلن عليها الحرب. وكانت أهم حركة معادية للثورة هي دخوله للبحرين بحجة التصدي لقلاقل طائفية. ثم صرف جهده إلى إفشال الثورة في كل قُطر بدأ عملية التغيير الديمقراطي. ولقد طرحنا السؤال: هل يكون جمال خاشقجي هو بوعزيزي السعودية؟ نحن الآن في وضع مراقبة ارتدادات العملية، فالعملية ستكون لها ارتدادات مهمة في الداخل؛ ستنعكس بدورها على موقف النظام في الخارج تجاه بلدان الربيع العربي بالذات. لنرَ هذه الاحتمالات والتوقعات:

الأثر الثابت للعملية على النظام وعلى العائلة

مهما قلَّل النظام والأسرة (وهما اثنان في واحد) من أثر العملية، فإن ارتداداتها ستكون كبيرة ومؤثرة على العائلة نفسها. فولي العهد المتهم الأول بالعملية له من الأعداء داخل الأسرة أكثر مما له خارجها، وهؤلاء لا يمكن شراؤهم مهما دفع من ثمن؛ لأنه ارتكب في حقهم ما لن يغفروا له إلا بأن يزيلوه من السلطة ومن طريقهم إليها، فهم نسخ أخرى منه وإن لم ينشروا صحافياً بمنشار بعد. لذلك، إذا أفلح ولي العهد في ترضية أطراف خارجية وإسكاتها بأموال أو مكاسب سياسية، فإنه لن ينجو من الأعداء الذين صنعهم له في الداخل.

سيكون رأسه هدفاً داخلياً قبل أن يكون هدفاً خارجياً، وحينها ستكون عملية تغيير في المراكز الأولى (دون المساس بجوهر النظام/ الأسرة). ولا شك أن القادم سيمحو السابق، بما في ذلك -وربما في رأس أولوياته- تغيير سياسة المملكة الخارجية تجاه حلفائها الذين اختارهم ولي العهد (الذي سيسمَّى المعزول أو المطارد دولياً).

حلفاء محمد بن سلمان لن يكونوا حلفاء سلفه، ولو كان أخاه الشقيق. فتغيير الحلفاء هو تغيير سياسات المملكة الخارجية، وسيكون تخفيف وزن عيال زايد على سياسة المملكة خطوة رئيسية. لم يعد خافياً أن عيال زايد هم مَن وجه محمد بن سلمان وقاده لحتفه السياسي والأخلاقي أيضاً. فإذا تم قطع هذه الوشيجة (أتحدث عن احتمالات واردة جداً لا عن يقين)، سيكون ترميم العائلة من الداخل خطوة مهمة وضرورية، بما يقتضيه ذلك من إعادة بناء أحلاف أطرافها من بلدان الجوار السعودي، ولن يكون هناك داعٍ حقيقي لاعتبار الكويت محمية سعودية عليها استشارة المملكة في كل خطوة تخطوها، أو مواصلة حرب اليمن الخاسرة واستعداء اليمنيين بلا ثمن، فضلاً عن الحاجة إلى هدوء ورصانة سلطنة عمان في إدارة الأزمات بمجلس التعاون الخليجي، الذي فتّته ولي العهد وأفقده دوره في توجيه سياسات المنطقة بعقل هادئ.

التهدئة الداخلية (ربما دون الوصول إلى محاسبة جذرية) خطوة في طريق التهدئة إقليمياً (قد تصل إلى رفع الحصار عن قطر)، ثم التفرغ إلى جبر السياسيات الخارجية المندفعة إلى التطبيع ومعاداة الثورات العربية، دون مكاسب حقيقية للمملكة.

ترميم السياسات الخارجية

سنتحدث عن ترميم يستعيد وجه المملكة التي تغطَّت دوماً بدور الأخ الأكبر العطوف الذي يجتنب التأثير المباشر على الأنظمة المجاورة.. ستكون العلاقة الكلاسيكية مع مصر هدفاً مهماً، أي استعادة سياسة المساعدة دون توجيه أمر، بما يفقد العسكر سنداً كبيراً يضطرون معه إلى تهدئة داخلية، وسيبحث النظام السعودي عن مصريين يقولون كلمة خير في نظامهم؛ هذه الكلمة الخيرة لها ثمن رفع الحماية عن العسكر، وتركهم يواجهون شعبهم بلا مآل ولا شرعية.

إن الشعور بالغلبة والاستهانة بكل محاسبة ممكنة، الذي نقله محمد بن سلمان إلى عسكر مصر بواسطة دفق مالي غير محدود (سعودي وإماراتي)، ستنقطع أسبابه. فلم تربح المملكة من مساعدة النظام المصري الانقلابي (لقد أخذ دون أن يعطي شيئاً سوى بعض العبارات السياسية الفارغة). فهي لم تجد الجيش المصري في اليمن عندما احتاجت إليه هناك.

ستتغير المواقف من قطر، فالخسارة المالية على الأقل من الحصار، أكبر من الأرباح. فقطر احتالت على الحصار ونجت حتى الآن، بما أفقد ولي العهد كل مكسب، بل ترك فضيحة، خاصة عندما تعلق الأمر بمنع الحج على القطريين.

ستتغير السياسات تجاه بقية البلدان التي عاداها ولي العهد دون مكاسب تذكر.. سيطرح سؤال جديّ: ماذا ربحت المملكة من مساعدة حفتر في ليبيا؟ وماذا ربحت في مساعدة فلول نظام بن علي في تونس؟ وماذا ربحت في توتير علاقتها بالجزائر التي ترى حفتر على حدودها بمال سعودي – إماراتي، ولولاه لما تجرأ على رفع عينيه إلى خريطة الجزائر؟

هنا يمكن توقّع تعديل كبير يخفف من ضغط المال السعودي على سياسات دول مثل تونس وليبيا، وقد يعاد إلى سياسة المجاملة الأخوية تجاه الجزائر كما كانت الحال مع ملوك سابقين.

ماذا ربحت المملكة من تصعيد العداء مع إيران، خاصة وهي تسمع ترمب يعايرها بضعفها أمام غزو إيراني محتمل لن يقف فيه معها أحد؟

لقد صار من العسير على المملكة أن تدافع عن خدمتها للحرمين، وهي تتحول إلى قناة تطبيع مع الصهاينة. وعليها الآن (أو على الأمير القادم) أن تقيم هذه الخسارات لتخرج منها بأخفّ الأضرار، على أمل ترميم مكانة المملكة عربياً لتركيز الجهد على الابتزاز الخارجي الذي لن ينقطع ما دامت إدارة ترمب تمسك بمفتاح البيت الأبيض.

هل يكون خاشقجي هو البوعزيزي في السعودية؟

من السابق لأوانه القول بأن المملكة قد دخلت الربيع العربي سيراً نحو الديمقراطية، لكن من اليقين أن هزة كبيرة قد حصلت، وأن خيار محمد بن سلمان لم يعد مجدياً في الداخل ولم يعد قابلاً للتسويق في الخارج.

سيقول حلفاء المملكة الأزليون، وفي مقدمتهم الأميركيون، إن مسار التحديث ممكن من دون محمد بن سلمان، فما أحدثه من تغيير في الداخل قُبل من كثيرين، ولكن لم يعد شرطاً أن يواصل الأمير/ الملك قيادة التغيير بنفسه. وكل مَن يُتوسم فيه مواصلة الخط (دون تفكيك المملكة إلى قبائل) ودون استعمال منشار؛ سيكون بديلاً مقبولاً.

ولا شك أن هناك الآن خيارات تدرس، وليس منها محمد بن سلمان. رجَّة خاشقجي بهذا المعنى هي احتراق البوعزيزي الذي كان شرارة لثورة استمرت دونه. لا شك أن استقرار المملكة في المنطقة هدف في ذاته (ليس هناك بديل في الداخل). لكن كيف يتم التوفيق بين الاستقرار والتغيير؟

ستبدأ العائلة مرحلة تنازلات قاسية، وستنقذ ما يمكن إنقاذه، أي أنها ستفرط في ما يمكن التفريط فيه. سيكون هناك خاسرون، وأولهم ولي العهد الذي يختفي الآن من الصورة، ويسمح لأبيه ببدء الترميم عبر مجاملة تركيا والتراجع عن التصعيد الإعلامي الذي بدأته ماكينة محمد بن سلمان الإعلامية. فلا قِبل للعائلة بمعاداة العالم، أو حتى مجرد التلميح باستعمال سلاح النفط في وضع اقتصادي عالمي مضطرب.

هل نكتب في الأيام القادمة أن قناة التطبيع قد أغلقت، وأن نتنياهو فقد صديقه المبجل؟ يمكننا الكتابة منذ الآن أن «الرز السعودي» قد انقطع عن مصر وحفتر، فشفاطة ترمب لا ترتوي من «الرز السعودي».

لنتحدث عن أثر الفراشة. لقد أحرق خاشقجي عباءة الأمير/ الملك، والنار الآن تلتهم أثاث قصره، وربما تأخذ في طريقها لوحة المخلص. فالمسيح المخلص استعمل المنشار في الخشب ككل نجار طيب، لكنه لم يستعمله في عظم الإنسان.


المصدر : عربي 21