الخميس 2018/11/15

اختراق الثورة السورية.. الضربة القاصمة

اختراق العدو.. قد يكون هذا الأسلوب من أنجع وأهم الأساليب التي تؤتي أكلها في الحروب والصراعات، ولا تقل أهميته عن حشد السلاح والجند وتجهيز الخطط العسكرية، ولَكَمْ سجّل التاريخ انهيار دول وإمارات وممالك وجماعات بعد أن حصل اختراق داخلي نجم عنه انكشاف ما يحاك لضرب العدو المتربص، فكان أن انقلب السحر على الساحر في ليلة وضحاها.

في سوريا.. يصح أن نقول إن نظام الأسد وبعد الثورة السورية نجحَ في أسلوب اختراق معارضيه إلى حد كبير؛ ينطبق بشكلٍ أول على الجانب العسكري، ثم السياسي وحتى الإعلامي، وللاختراق أساليب عديدة مثل دس خلايا وعملاء بين الثوار أو التنصت على اتصالاتهم، وما إلى ذلك من الطرق المتعددة للإيقاع بهم.

ولأن الثورة السورية كانت في بدايتها تتعطش للزخم ولا تطرد أحداً طرقَ باب الالتحاق بها فإن ذلك شكّلَ أحدَ أهم الأسباب التي أدت إلى اختراقها، سواءٌ في بدايتها السلمية او حتى بعد تسلحها.

يقول "أحمد" من مدينة دير الزور في حديث خاص للجسر وهو أحد المشاركين في الحراك السلمي بالثورة السورية إنه "وفي شهر آذار بدأ مع مجموعة من رفاقه تنسيق المظاهرات في أيام الجمعة، وكان عددهم يزداد مع وجود مخاوف من أن يحصل اختراق في مجموعتهم، وهذا ما حصل بالفعل، فبعد إحدى جُمعِ التظاهر وعودتهم من المظاهرة أقدم عناصرُ الأمن العسكري على اعتقالهم جميعاً باستثناء شخص واحد فقط، تبيَن فيما بعدُ أنه لم يكن متظاهراً وإنما كان أحد خلايا النظام ودلّ على بيوتهم، وهو بات فيما بعدُ متزعِماً في مجموعة لمليشيات الدفاع الوطني".

ينطبق ما حصل في أيام المظاهرات السلمية مع المرحلة العسكرية التي بدأت فيها الثورة السورية، فالظروف كانت تدفعُ العناصرَ المنشقة إلى تقبُّلِ المنشقين الآخرين دون التثبت من ولائهم، وبالأصل كان من الصعب التعرف على الولاء أو مساءلة أحد إن كان بالفعل قَدِمَ إلى صفوف الجيش الحر ليقاتل عن عقيدةٍ وثورة أم ليخترقَ صفوفهم ويدفع بينهم الشقاق.

عن هذا الموضوع يقول العقيد رياض الأسعد مؤسس الجيش السوري الحر في حديث خاص مع الجسر "إن ظاهرة الاختراق عمل عليها النظام قبل الثورة فكنت تسمع كثيراً عبارة" الحيطان لها آذان"، ويضيف أنه كان يدرك تماماً إدخال النظام الكثير من العملاء في صفوف الثورة وتم ضبطُ الكثيرين منهم، لكن في نفس الوقت بقي الكثيرون متغلغلين من خلال شعار "الثورة تجب ما قبلها"، ورفض التخوين".

ويرى الأسعد أن "إدخال العملاء واختراق الثوار أدى إلى تنوع الفصائل والمجالس العسكرية المدعومة من جهات محددة، ما شكل نوعاً من الفوضى، الأمر الذي سهّل على النظام اختراق جميع الصفوف حتى السياسية، وهذا شكل الدور الأكبر في تراجع الثورة السورية".

وبالطبع فإن ظروفَ فقر الثورة أتاحت في بدايتها لنظام الأسد أن يسعى لاختراقها من جوانبها كافة؛ العسكرية والسياسية والإعلامية والإنسانية، فما جرى في مرحلةِ استعادة النظام مناطقَ واسعة من البلاد كشف أن الثوار كانوا مخترَقين إلى حد كبير جدا، وليس من يقود الاختراق عنصرا لا كلمة له، بل إن ما جرى أنَّ قياديين كانوا يقودون عمليات الاختراق، وكانوا ينتقدون النظام ويتوعدونه في العلن وينسقون معه في السر.

ففي الغوطة الشرقية على سبيل المثال وفي أحلك الظروف وأكثرها حاجة لرفع المعنويات ظهر أحد ما عرف بـ "الضفادع" (وهو المصطلح الذي يطلقه السوريون على المنضمين للنظام من المعارضة) ظهر ليعلن الانضمام لصفوف النظام، كما حدث مثل هذا في شمال حمص ودرعا والقنيطرة.

يدعم هذا الرأي العقيد "رياض الأسعد" بقوله "لم تسقط منطقة واحدة بقتال رغم الدعم الروسي والإيراني ولكن الاختراق في صفوف الفصائل وخاصة على مستوى القيادات أدى الى تراجع العمل العسكري بشكل كبير رغم الإمكانيات الهائلة التي يمتلكونها عسكرياً وبشرياً ومادياً".

وينوه الأسعد إلى" تصرفات بعض قادة الفصائل من تخريب للمنشآت العامة والخاصة وسرقتها تحت اسم غنائم، والاقتتال الداخلي والظلم وغيرها من الأمور التي تؤكد اختراق الفصائل على مستوى قيادات، وهذا ما أدى الى تسليم العديد من المدن تحت وهم اتفاقات خفض التصعيد، والجميع أدرك حجم الاختراق وكم من الضفادع كان يقود أو صاحب قرار، وللأسف إلى الآن يوجد البعض يعيش نفس الأكذوبة بعدم التخوين ويعيش بالأوهام التي يقودها الإعلام المضاد للثورة".

من الملفت للانتباه أن قادةَ فصائل ومجموعات كانت تغير ولاءها وانتماءها بساعاتٍ معدودة، وقد لا يصح أن نقول إنها غيرت ولاءها، فهي بالأصل أو على الأغلب كانت مبتعَثةً من قبل النظام، ومن المؤكد أنها كانت تنسق مع النظام في الفترة التي سبقت سيطرتَهُ على المنطقة وتعطيه ما يجري ويحاك ضده من قبل الفصائل، وذلك ما أثر حتى على المقاتلين الذين كانوا يرفضون التسليم.

يُثبتُ ذلك أن بعض العائدين إلى نظام الأسد عاد قيادياً في صفوف مليشياته، وبالطبع فإن الحديث لا يشمل العناصرَ المنضويةَ في صفوف المرسَل لكي يخترق، فهؤلاء وقعوا ضحايا لعمليات انتقامية شنتها المليشيات الموالية للنظام، كما حصل بشكل كبير في محافظة درعا منذ توقيع اتفاق "التسوية" برعاية روسية.

ومع كل عودةٍ لقياديين بالجيش الحر إلى حضن النظام يزداد اليقين بأن ذلك العائد كان مبتعَثاً بشكل مخصوص من قبل النظام، وينطبق الاختراقُ كذلك على الفصائلِ الأخرى بغيرِ الجيش الحر، مثل هيئة تحرير الشام وتنظيم الدولة، فهؤلاء مثلاً خسروا الكثير من القادة والمناطق بسبب عمليات الاختراق التي وقعوا فيها خاصة التنصت على اتصالاتهم أو دس التحالف الدولي عناصر بينهم تابعين له.

الصعيد السياسي لا يختلف كثيراً عن العسكري، فالنظام أوجدَ أساليبَ كثيرة لخرق صفوف المعارضة السياسية ودس سياسيين تابعين له في صفوفها، ما أدى إلى تمزُّقِها وعدم إجماعها على كلمة واحدة، بل إنها تحولت إلى منصات وجماعات مختلفة الولاءات، لم تجتمعْ لا في أيام قوةِ الثورة ولا في أيام ضعفها على كلمة واحدة، في وقتٍ كان الكثير من المعارضين السياسيين يعودون إلى صفوف النظام ويلمّعونه ويدعون إلى العودة والتصالح معه، وذلك بعد أن أتموا مهمتهم على الوجه المطلوب، ومن غير البعيد أن يتخلص منهم النظام في وقت لاحق، والنماذج على هؤلاء أكثر من أن تحصى، ومنهم من لا يزال حتى الآن ضمن المعارضة السياسية مثل خالد المحاميد عضو هيئة التفاوض والذي سلَّمَ الجنوب السوري لروسيا والنظام بالتنسيق مع الفصائل الأخرى التابعة له.

أسلوب الاختراق لدى نظام الأسد ليس وليداً في الثورة السورية، فهو قد استعمله منذ توليه الحكم، حيث عمل على اختراق كلِ مجموعةٍ تحضر لضربه أو القيام ضده، فعلى سبيل المثال نجح نظام الأسد في القضاء على جميع مقاتلي "الطليعة المقاتلة" والإخوان المسلمين في سوريا بعد أحداث الثمانينات في حماة، من خلال دس عناصرَ فيما بينهم، وأدى ذلك إلى تداعيهم وانكشاف أمرهم وتشكيل نهاية لهم ولتنظيماتهم.

تكشف كذلك تجربة "محمود غول أغاسي" المعروف بـ "أبو القعقاع السوري"  في مدينة حلب في أول العام 2000 وما قبله نجاحَ النظام في معرفة جميع من يطمحون لوجود تيارات جهادية في سوريا، إذ ظهر "أبو القعقاع" بمظهر الرجل السلفي بشكل علني الداعي إلى تحرير فلسطين وأفغانستان، وكان يصوِّرُ ويكتبُ أسماءَ جميع من يرتادون إليه، وجميع الجلسات كانت تجري بعلم من مخابرات نظام الأسد، وبعد مرور أعوام تبيَن أن "أبو القعقاع" لم يكن سوى عنصر في مخابرات الأسد ينسق معهم ويعطيهم أسماء جميع من يرتادون مجلسه، ما أدى إلى اعتقالهم وتمزق طموحاتهم، وحتى اغتياله في 2007 تُشارُ أصابع الاتهام فيه إلى نظام الأسد خوفاً من أن ينكشف أمره فيما بعد.

على الطرف المقابل.. لا يبدو أن الثوار السوريين نجحوا في اختراق النظام بالحجم الذي اختُرِقوا فيه، ويمكنُ أنَّ عمليات اختراقٍ ناجحة قام بها الثوار قد حدثت في أيام تحرير المدن السورية، لكنها كانت على المدى القريب وليس على المدى البعيد كما خططَ النظامُ وجعلَ ورقة الاختراق إلى صالحه بالتوازي مع الظروف الإقليمية والدولية التي لا تريد للثورة السورية النجاح، وربما يعود السبب في ذلك إلى خوف المجند أو الضابط من أنْ يتواصلَ مع الجيش الحر وهو داخل ثكنة عسكرية قد تكون تحركاته واتصالاته مراقبة، وهذا بالنسبة للعسكري فما بالك بالسياسي والشخصيات الكبيرة التي انشقت عن النظام مثل رئيس الحكومة الدكتور رياض حجاب ؟، وربما ذلك ما دفع رأسَ النظام بشار الأسد إلى عدم التأثر بالانشقاقات، بل ووصفها بأنها عملية "تنظيف ذاتية" لا تشكل له خطراً حقيقياً، بل إنه ينظر إليها بأنها أزاحت عنه خطراً محدِقاً كان من الممكن أن يودي به وبنظامه.