الثلاثاء 2020/07/21

أَثَر الثورة على القواعد الدستورية

في بداية الثورة السورية اختلف القانونيون المنتمون للثورة بشأن القواعد القانونية الواجبة التطبيق في المناطق المحررة، والإشكالية كانت هل يطبقون قوانين الدولة السورية أم يستبدلونها بشرعة أخرى؟

 وعندما أعلن المبعوث الأممي إلى سورية (ديمستورا) السلال الأربعة، واختُصِرت تلك السلال بسلة واحدة وهي (الدستورية)، طرق الأسماع تساؤل مُلحّ عن مصير دستور سورية لعام 2012 ومدى شرعيته في حال نجاح الثورة، والسؤال الأكثر إلحاحًا وقلقًا في ذهنية السوري الحر هو، ما مصير الاتفاقيات الدولية التي أبرمها النظام السوري وكبَّلت الدولة السورية وقيَّدتها في سيادتها وغبَنتها حقوقها واعتدت عليها في أراضيها؟ هل هي مُلزِمة ولا يمكن التخلص منها؟ أم هناك طرق قانونية نستطيع أن نلغيها؟

تلك الإشكاليات معالجتها طويلة، لذلك سنحاول الإجابة عنها في سلسلة من المقالات.

القواعد الدستورية

الدستور في مفهومه القانوني هو وثيقة تتضمن سلطات الدولة وعلاقتها بالمجتمع، أما الدستور بمفهومه السياسي فهو طريقة سير الحياة السياسية ودواليب تعمل في مؤسسات الدولة، أي أن هناك مفهوم (استاتيكي) للدستور، ومفهوم (ديناميكي).

من المعلوم أن النصوص الدستورية تمثل الفكرة القانونية السائدة لدى الجماعة السياسية التي تتماشى مع المؤسسات القائمة في الدولة.

إلا أن نصوص الدستور تلك، وبمرور الزمن، يتجاوزها العصر وتصبح غير متماشية مع الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي وصل إليه المجتمع، وهذا يؤدي إلى بروز فكرة جديدة تتمثل في ضرورة إلغاء الدستور، حيث تقف السلطة في وجه التغيير السلمي العادي لتلك النصوص، فيلجأ الشعب لطرق غير عادية ولا طبيعية لتغيير الدستور.

من الطرق غير العادية لنهاية الدساتير في النظم المعاصرة (الثورات-والانقلابات العسكرية) التي قد تحدث بين الحين والآخر، وإن كانت الدساتير في العادة لا تنص على هذه الطريقة كوسيلة مشروعة لنهاية الدساتير، وتنهي معظم الدساتير في الدول المختلفة هذه النهاية غير العادية.

الثورة والانقلاب

يفرق الفقه بين الثورة والانقلاب من حيث أساس القوة التي تقوم بالحركة السياسية، فالثورة هي عمل يصدر وينبع من الشعب، في حين إن الانقلاب يقوم به أحد أطراف السلطة القائمة من غير اتباع الوسائل الدستورية، لكن هذا المعيار تعرض للانتقاد لأنه لا توجد ثورة شعبية خالصة، فكثيرًا ما تعتمد الثورات على بعض عناصر النظام السابق، وهو ما ينطبق على الانقلاب، فهو يحتاج دائمًا لاستقراره إلى قدر من التأييد الشعبي.

لذلك اتجه الفقه الدستوري إلى معيار آخر مبني على الهدف الذي تريد تحقيقه القوة التي تقوم بالحركة.

فإذا كان الهدف من الحركة التغيير الجذري للنظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي السائد في الدولة، وإحلال نظام جديد محل القديم وتغير سُلَّم القيم، وتحديد فلسفة ومفاهيم جديدة للحكم لم تكن معروفة بالسابق، وبالتالي إسقاط النظام السياسي للدولة ونظام الحكم فيها، غدت الحركة ثورة.

 تؤثر الثورة الناجحة على الدستور القائم فتسقطه، ومن أمثلة الثورات الثورة الفرنسية 1789 والثورة البلشفية 1917 وكلاهما أسقط الدستور.

 أما إذا كان الهدف من الحركة إسقاط الفساد القائم في الدولة، وهنا أعتقد الوصف اللائق للحدث هو انقلاب وليس ثورة؛ لأنني أعتقد أنه لا توجد ثورة ليس من بين أهدافها إسقاط الدستور، ومن الأمثلة على ذلك:

  • ما حدث مع انقلاب 23 يوليو 1952 في مصر، إذ لم يسقط دستور 1923 بل بقي ساريًا حتى تطورت الأحداث وأصبح لا يلبي حاجات الثورة، فأعلن في العاشر من ديسمبر سنة 1952 إسقاط دستور 1923، وهذا يعني أن دستور 1923 بقي ساريًا لمدة خمسة أشهر بعد نجاح الانقلاب.

  • الحركة الثورية التي قامت في بلجيكا عام 1952 وأدت إلى عزل الملك (ليوبولد الثالث)، هذه الحركة لم تؤدِّ إلى سقوط الدستور؛ لأنها كانت مُوجَّهة ضد الملك المتهم بالتعاون مع النازيين.

  • الانقلاب الأبيض الذي حصل في لبنان في أيلول من عام 1952 وانتهت بعزل رئيس الجمهورية، وكذلك الانتفاضة المسلحة بعام 1958 التي انتهت بالقضاء على فكرة تجديد الولاية لرئيس الجمهورية.

والانقلاب غالبًا ما يُلغي الدستور مثل الثورة، إلا أن الهدف ليس تحقيق تطلعات الشعب والارتقاء إلى ضمير الجماعة، بل من أجل فسح المجال أمام القائمين بالانقلاب لتحقيق أغراضهم الشخصية في غالب الأحيان.

النصوص الدستورية التي تلغيها الثورة

القواعد التي ترِد بالدستور لها أنواع متعددة ومتباينة، فهناك بعض القواعد القانونية ترِد بالدستور وموضوعها غير دستوري، ومن الأمثلة على تلك القواعد إلغاء عقوبة الإعدام في المادة الخامسة من دستور فرنسا لعام 1848، في عام 1918 صدر في أمريكا التعديل الثامن عشر ونصَّ على تحريم إنتاج المشروبات الروحية والإتجار بها وتعاطيها، وفي الدستور السوري الحالي تنظيم المجالس المحلية الوارد في المادتين (130-131).

إن أثر الثورة على هكذا نصوص ترد بالدستور إقحامًا، أي التي تكون دستورية شكلاً دون أن تكون دستورية من حيث الموضوع، لكنها وُضِعت بالدستور لتكسب صفة الثبات والاستقرار، استقر الفقه والقضاء في فرنسا على أن سقوط الدستور يؤدي إلى خلع الصبغة الدستورية عنها فقط دون إلغائها، وبذلك تظل قائمة كونها نصوصًا عادية يمكن تعديلها وإلغاؤها بقوانين عادية عن طريق السلطة التشريعية.

ومن جهة ثانية فإن الدستور هو مجموعة القواعد القانونية التي تنظم سلطات الدولة العليا وعلاقاتها ببعضها البعض من ناحية، وتنظم علاقة الفرد بالدولة من ناحية أخرى.

فهو يتضمن شقين: شقٌ سياسيٌ، وهو القواعد التي تحدد كيفية تشكيل وممارسة السلطة، ويسمى هذا الشقّ بـ(الدستور السياسي)، وهذا الجزء يكون هدفًا للثورة لإلغائه.

وشقٌّ اجتماعيٌ، وهو مجموعة القواعد التي تحدد حقوق الأفراد وحرياتهم في مواجهة السلطة، ويسمى هذا الشقّ بـ(الدستور الاجتماعي)، ويضع إطارًا للحريات العامة، هذا الجزء إذا كان نابعًا من ضمير الجماعة ويحمي الحريات العامة لا تقبل الثورات في إلغائه، بل على العكس تتبناه وتبني عليه.

ومن الأمثلة التاريخية على ذلك:

  • ثورات الإنكليز الأربعة، حيث لم تلغِ الدستور الاجتماعي، إنما كانت تستهدف الشقّ السياسي متمثلًا بعلاقة الملك مع البرلمان، وبقيت (الماكنا كارتا) منذ عام 1215 ووثيقة الحضور (البدني) 1679 و(إعلان الحقوق) 1689، فقد تبنَّت الثورات الأربعة الدستور الاجتماعي وبنت عليه الكثير من الحقوق ورسَّخت الحريات العامة. وكذلك حرص الشعب الإنكليزي على تدوين الشقّ الاجتماعي، في حين ترك الشق السياسي منظمًا بواسطة العُرف.

  • أما في فرنسا فقد اضطر الشعب الفرنسي لتغيير دستوره السياسي منذ قيام الثورة الفرنسية عدة مرات، لكنه حرص على تأكيد دستوره الاجتماعي الذي تضمنه إعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر سنة 1789 (ثابت)، حتى إن دستورها الحالي أكّد تبنيه.

عندما يسقط الدستور إثر ثورة، فإن الدستور يُلغَى لقيام الشعب بالثورة، أو لعدم مقاومته لها، وهذا يُعدُّ دليلاً على رغبة الشعب في إلغاء الدستور.

إن الذي يسقط في هذه الحالة هو النصوص المتعلقة بالشقّ السياسي التي تكون دستورية شكلاً وموضوعًا، والمتعلقة بتنظيم السلطات، أما الدستور الاجتماعي وهو النصوص المتعلقة بالحقوق والحريات فهو لا يسقط نتيجة الثورة.

الثورة السورية وأثرها على القواعد الدستورية

في البدء علينا أن نحدد التوصيف القانوني للأحداث السورية، انطلقت الأحداث دون أدنى مشاركة من رجال السلطة أو المنتمين لها، لأن من قام بالثورة هو الشعب، والجيش تصدى للثورة وبالتالي هذا دليل نفي قاطع أن الحدث الثوري السوري ليس انقلابًا.

ليأتي بعد ذلك انشقاق عدد من الضباط الشرفاء دفاعًا عن أهلهم، وهذا لم يُغير من التوصيف فبقيت ثورة، وليس كما يحاول البعض توصيفها بالحرب الأهلية، استنادًا إلى تعريفها، وما أعتقده أن التعاريف مرنة وليست جامدة، ويجب دراسة كل حدث اجتماعي على حدة بكامل تفاصيله، وليس التعريف ميزانًا ثابتًا نضعه بكفة ونضع الحدث الاجتماعي بكفة ونقيده بالوصف.

هي انطلقت ثورة وبقيت ثورة رغم كل ما اعتراها من تطوير وتحوير وتغيير، ومادُمنا وصفناها بالثورة، فإننا نحتاج دستورًا جديدًا يكون عقدًا اجتماعيًا يؤسس لعصر وفكر جديدين، ومرحلة حضارية غير مسبوقة.

ولأن دستور سورية لعام 2012 ما هو إلا استمرار لدساتير سابقة لا تعدو أن تكون واجهة حضارية تخفي نظامًا أوتوقراطيًا، ليس له قيمة قانونية ملازمة، إنما يُصنَّف ضمن (دساتير الخدعة) التي تستخدم لتأسيس نظم أوتوقراطية مستغلة فقط ما توحي به كلمة دستور من معانٍ ديمقراطية مرتبطة بالحرية، لكنها تخفي الحقيقة عن الواجهة المعلنة.

إن جميع القواعد الدستورية الواردة في الباب الأول والثاني، التي تشكل ما يسمى بالدستور الاجتماعي في الدستور السوري، وهي النصوص المتعلقة بالحقوق والحريات العامة وقد جاءت فاقدة لمعناها وقيمتها؛ لأن هذه المواد تم اختراقها قبل وضعها وأثنائه وبَعده، فهي لا تساوي الحِبر الذي كتبت به.

 لذلك يجب العمل على إنشاء دستور اجتماعي يحظى بالاحترام من الحكام والمحكومين ليصل إلى قدسية في النفوس، ولا يستطيع أحد أن يطاله بالتغيير.

ومن الأمثلة على ذلك، الحرية حق مقدس (م33) فكيف يتم اعتقال موطن من قبل سلطات الدولة وحجز حريته دون إذن قضائي؟!

لو أردنا تعداد المواد المتعلقة بالحقوق والحريات لوجدنا لكل مادة اعتداء مادي أو تشريعي علني، هذا الاعتداء أفقد النص فضيلته، وقدسيته قبل تشكله في النفوس، بل أصبح لدى المواطن السوري حِنق وغضب حيال الدستور الاجتماعي الذي عجز عن حمايته، فلن يفكر بحمايته بل على العكس سيسعى جاهدًا لإسقاط الدستور الاجتماعي قبل السياسي. 

وأخيرًا كما نعلم جميعًا، كان الشعار الرئيس أو شبه الوحيد الذي صاحت به حناجر جماهير الثورة السورية على امتداد الجغرافية السورية هو (الشعب يريد اسقاط النظام) والمقصود بالنظام بطبيعة الحال نظام الحكم كما وضعه الدستور وطبَّقه الحكام، لذلك عند نجاح الثورة يسقط الدستور دون حاجة لإعلان سقوطه، بعدما أفصح الثوار عن رغباتهم وتطلعاتهم.

ما ذكرناه هو شرح لموقف الفقه الدستوري وتوصيف للواقع التاريخي للثورات وأثرها على الدساتير، أما ما آلت إليه الأمور التفاوضية فيجب إعلان سقوط دستور سورية لعام 2012 بكل ما حوى من قواعد نظام الحكم إلى منظومة الحقوق والحريات والقواعد الشكلية الدستورية؛ لأنه كلٌّ متكامل، قواعد نظام الحكم لا تنفصل عن باقي نصوص الدستور وأبوابه الذي أصبح لا يتوافق مع أهداف ثورة الشعب وتطلعاتها.

ولأن الشعب أدرك عوامل وحدته، ووعت الأمة أسباب قوتها، بدأت المطالبة بدستور ينظم الحياة السياسية، ويضبط استثمار التقدم، ويضمن العدالة في توزيع ثروة المجتمع، إلا أن الدستور يظل وثيقة بلا قيمة ما لم يحرص الشعب على تفعيلها وحراسة مكتسباته يومًا بعد يوم.

لذلك عزيزي عضو اللجنة الدستورية عن قوى الثورة، إن مطالبة أبناء الثورة لك بتغيير الدستور بكل تفاصيله ليست شعارًا سياسيًا ولا مطلبًا زائدًا، بل مطلب حق ودونه تفريط بحق أساسي من حقوق الثورة.